أمر المصاحف
لما عاد حذيفة بن اليمان من غزو الباب قال لسعيد بن العاص: لقد رأيت في سفرتي هذه أمرًا لئن ترك الناس ليختلفن في القرآن، ثم لا يقومون عليه أبدًا، قال: وما ذاك؟ قال: رأيت أناسًا من أهل حمص يزعمون أن قراءتهم خيرٌ من قراءة غيرهم، وأنهم أخذوا القرآن عن المقداد. ورأيت أهل دمشق يقولون: إن قراءتهم خيرٌ من قراءة غيرهم، ورأيت أهل الكوفة يقولون مثل ذلك، وأنهم قرؤوا على ابن مسعود. وأهل البصرة يقولون مثل ذلك، وأنهم قرؤوا على أبي موسى، ويسمُّون مصحفه "لباب القلوب".
فلما وصلوا إلى الكوفة أخبر حذيفة بن اليمان بذلك، وحذرهم ما يخاف، فوافقه أصحاب رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ وكثير من التابعين، وقال له أصحاب ابن مسعود: ما تنكر؟ ألسنا نقرؤه على قراءة ابن مسعود؟ فغضب حذيفة ومن وافقه وقالوا: إنما أنتم أعراب فاسكتوا فإنكم على خطأ. وقال حذيفة: واللَّه لئن عشت لآتين أمير المؤمنين، ولأشيرن عليه أن يحول بين الناس وبين ذلك، فأغلظ له ابن مسعود، فغضب سعيد وقام، وتفرَّق الناس، وغضب حذيفة، وسار إلى عثمان، فأخبره بالذي رأى وقال: أنا النذير العريان فأدركوا الأمة. وفي البخاري رواية عن حذيفة أنه قال لعثمان: (أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى). وكان حذيفة يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وآذربيجان مع أهل العراق.
جمع عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ الصحابة وأخبرهم الخبر، فأعظموه ورأوا جميعًا ما رأى حذيفة. فأرسل إلى حفصة بنت عمر زوجة رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك. وكانت هذه الصحف هي التي كتبت في أيام أبي بكر، فإن القتل لما كثر في الصحابة يوم اليمامة قال عمر لأبي بكر: إن القتل قد كثر واستحرَّ بقرَّاء القرآن يوم اليمامة، وإني أخشى أن يستحرَّ القتل بالقرَّاء، فيذهب من القرآن كثير. وإني أرى أن تأمر بجمعه، فأمر أبو بكر زيد بن ثابت، فجمعه من الرقاع والعُسُب [العُسُب: عُسُب النخل، وهي الجريد الذي لا خوص له، واحدها عسيب]، وصدور الرجال.
فكانت الصحف عند أبي بكر، ثم عند عمر، فلما توفي عمر أخذتها حفصة فكانت عندها، فأرسل عثمان إليها وأخذها منها، وأمر زيد بن ثابت وعبد اللَّه بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان: إذا اختلفتم فاكتبوها بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم، ففعلوا. فلما نسخوا الصحف ردَّها عثمان إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وحرق ما سوى ذلك، وأمر أن يعتمدوا عليها ويدعوا ما سواها، فكل الناس عرف فضل هذا العمل إلا ما كان من أهل الكوفة، فإن المصحف لما قدم عليهم فرح به أصحاب النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، وأصحاب عبد اللَّه ومن وافقهم امتنعوا عن ذلك وعابوا الناس، فقام فيهم ابن مسعود وقال: ولا كل ذلك فإنكم واللَّه سبقتم سابقينا فأربعوا على ظلعكم [أربع على ظلعك: أي أنك ضعيف فتنكب عما لا تطيقه].
ولما قدم على الكوفة قام إليه رجل فعاب عثمان بجمع الناس على المصحف، فصاح وقال: اسكت فعن ملأ منا فعل ذلك فلو وليت منه ما ولي عثمان لسلكت سبيله [قال ابن قيم الجوزية، في كتاب الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص 18ـ 19: "ومن ذلك جمع عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ الناس على حرف واحد من الأحرف السبعة التي يطلق لهم رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ القراءة بها لما كان ذلك مصلحة، فلما خاف الصحابة ـ رضي اللَّه عنه ـم على الأمة أن يختلفوا في القرآن ورأوا أن جمعهم على حرف واحد أسلم وأبعد من وقوع الاختلاف فعلوا ذلك ومنعوا الناس من القراءة بغيره. وهذا كما لو كان للناس عدة طرق إلى البيت وكان سلوكهم من تلك الطرق يوقعهم في التفرق والتشتت ويطمع فيهم العدو، فرأى الإمام جمعهم على طريق واحد، وترك بقية الطرق جاز ذلك ولم يكن فيه إبطال لكون تلك الطرق موصلة إلى المقصود وإن كان فيه نهي من سلوكها لمصلحة الأمة]
قال زيد: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري ـ {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 32] ـ فألحقناها في سورتها في المصحف.
واختلف في عدد المصاحف التي أرسل بها عثمان إلى الآفاق. قال السيوطي في الإتقان: والمشهور أنها خمسة. وقال ابن أبي داود من طريق سمعت أبي حاتم السجستاني يقول: كتب سبعة مصاحف فأرسل إلى مكة وإلى الشام، وإلى اليمن، وإلى البحرين، وإلى البصرة، وإلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحدًا. واختلف في ترتيب السور هل هو توقيفي أو باجتهاد الصحابة؟ قال الكرماني في البرهان: ترتيب السور هكذا هو عند اللَّه في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب. وقال مالك: ترتيب السور باجتهاد الصحابة. وقال السيوطي في الإتقان: والذي ينشرح له الصدر ما ذهب إليه البيهقي وهو أن جميع السور ترتيبها توقيفي إلا براءة والأنفال.
المراجع
[ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 8] (سنة 30 هـ/ 65
لما عاد حذيفة بن اليمان من غزو الباب قال لسعيد بن العاص: لقد رأيت في سفرتي هذه أمرًا لئن ترك الناس ليختلفن في القرآن، ثم لا يقومون عليه أبدًا، قال: وما ذاك؟ قال: رأيت أناسًا من أهل حمص يزعمون أن قراءتهم خيرٌ من قراءة غيرهم، وأنهم أخذوا القرآن عن المقداد. ورأيت أهل دمشق يقولون: إن قراءتهم خيرٌ من قراءة غيرهم، ورأيت أهل الكوفة يقولون مثل ذلك، وأنهم قرؤوا على ابن مسعود. وأهل البصرة يقولون مثل ذلك، وأنهم قرؤوا على أبي موسى، ويسمُّون مصحفه "لباب القلوب".
فلما وصلوا إلى الكوفة أخبر حذيفة بن اليمان بذلك، وحذرهم ما يخاف، فوافقه أصحاب رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ وكثير من التابعين، وقال له أصحاب ابن مسعود: ما تنكر؟ ألسنا نقرؤه على قراءة ابن مسعود؟ فغضب حذيفة ومن وافقه وقالوا: إنما أنتم أعراب فاسكتوا فإنكم على خطأ. وقال حذيفة: واللَّه لئن عشت لآتين أمير المؤمنين، ولأشيرن عليه أن يحول بين الناس وبين ذلك، فأغلظ له ابن مسعود، فغضب سعيد وقام، وتفرَّق الناس، وغضب حذيفة، وسار إلى عثمان، فأخبره بالذي رأى وقال: أنا النذير العريان فأدركوا الأمة. وفي البخاري رواية عن حذيفة أنه قال لعثمان: (أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى). وكان حذيفة يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وآذربيجان مع أهل العراق.
جمع عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ الصحابة وأخبرهم الخبر، فأعظموه ورأوا جميعًا ما رأى حذيفة. فأرسل إلى حفصة بنت عمر زوجة رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك. وكانت هذه الصحف هي التي كتبت في أيام أبي بكر، فإن القتل لما كثر في الصحابة يوم اليمامة قال عمر لأبي بكر: إن القتل قد كثر واستحرَّ بقرَّاء القرآن يوم اليمامة، وإني أخشى أن يستحرَّ القتل بالقرَّاء، فيذهب من القرآن كثير. وإني أرى أن تأمر بجمعه، فأمر أبو بكر زيد بن ثابت، فجمعه من الرقاع والعُسُب [العُسُب: عُسُب النخل، وهي الجريد الذي لا خوص له، واحدها عسيب]، وصدور الرجال.
فكانت الصحف عند أبي بكر، ثم عند عمر، فلما توفي عمر أخذتها حفصة فكانت عندها، فأرسل عثمان إليها وأخذها منها، وأمر زيد بن ثابت وعبد اللَّه بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان: إذا اختلفتم فاكتبوها بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم، ففعلوا. فلما نسخوا الصحف ردَّها عثمان إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وحرق ما سوى ذلك، وأمر أن يعتمدوا عليها ويدعوا ما سواها، فكل الناس عرف فضل هذا العمل إلا ما كان من أهل الكوفة، فإن المصحف لما قدم عليهم فرح به أصحاب النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، وأصحاب عبد اللَّه ومن وافقهم امتنعوا عن ذلك وعابوا الناس، فقام فيهم ابن مسعود وقال: ولا كل ذلك فإنكم واللَّه سبقتم سابقينا فأربعوا على ظلعكم [أربع على ظلعك: أي أنك ضعيف فتنكب عما لا تطيقه].
ولما قدم على الكوفة قام إليه رجل فعاب عثمان بجمع الناس على المصحف، فصاح وقال: اسكت فعن ملأ منا فعل ذلك فلو وليت منه ما ولي عثمان لسلكت سبيله [قال ابن قيم الجوزية، في كتاب الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص 18ـ 19: "ومن ذلك جمع عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ الناس على حرف واحد من الأحرف السبعة التي يطلق لهم رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ القراءة بها لما كان ذلك مصلحة، فلما خاف الصحابة ـ رضي اللَّه عنه ـم على الأمة أن يختلفوا في القرآن ورأوا أن جمعهم على حرف واحد أسلم وأبعد من وقوع الاختلاف فعلوا ذلك ومنعوا الناس من القراءة بغيره. وهذا كما لو كان للناس عدة طرق إلى البيت وكان سلوكهم من تلك الطرق يوقعهم في التفرق والتشتت ويطمع فيهم العدو، فرأى الإمام جمعهم على طريق واحد، وترك بقية الطرق جاز ذلك ولم يكن فيه إبطال لكون تلك الطرق موصلة إلى المقصود وإن كان فيه نهي من سلوكها لمصلحة الأمة]
قال زيد: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري ـ {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 32] ـ فألحقناها في سورتها في المصحف.
واختلف في عدد المصاحف التي أرسل بها عثمان إلى الآفاق. قال السيوطي في الإتقان: والمشهور أنها خمسة. وقال ابن أبي داود من طريق سمعت أبي حاتم السجستاني يقول: كتب سبعة مصاحف فأرسل إلى مكة وإلى الشام، وإلى اليمن، وإلى البحرين، وإلى البصرة، وإلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحدًا. واختلف في ترتيب السور هل هو توقيفي أو باجتهاد الصحابة؟ قال الكرماني في البرهان: ترتيب السور هكذا هو عند اللَّه في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب. وقال مالك: ترتيب السور باجتهاد الصحابة. وقال السيوطي في الإتقان: والذي ينشرح له الصدر ما ذهب إليه البيهقي وهو أن جميع السور ترتيبها توقيفي إلا براءة والأنفال.
المراجع
[ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 8] (سنة 30 هـ/ 65