الجيش الإسلامي يدخل مكة
وتحركت كل كتيبة من الجيش الإسلامي على الطريق التي كلفت الدخول منها .
فأما خالد وأصحابه فلم يلقهم أحد من المشركين إلا أناموه . وقتل من أصحابه من المسلمين كُرْز بن جابر الفِهْرِي وخُنَيْس بن خالد بن ربيعة . كانا قد شذا عن الجيش ، فسلكا طريقاً غير طريقه فقتلا جميعاً ، وأما سفهاء قريش فلقيهم خالد وأصحابه بالخَنْدَمَة فناوشوهم شيئا من قتال ، فأصابوا من المشركين اثني عشر رجلاً ، فانهزم المشركون ، وانهزم حِمَاس بن قيس ـ الذي كان يعد السلاح لقتال المسلمين ـ حتى دخل بيته ، فقال لامرأته : أغلقي على بابي .
فقالت : وأين ما كنت تقول ؟ فقال :
إنك لو شهـدت يوم الخندمة
واستقبلتنا بالسيوف المسلمة
ضربـاً فلا يسمع إلا غمغمه
إذ فر صفوان وفر عكرمة
يقطعن كل ساعد وجمجمه
لهـم نهيت خلفنا وهمهمه
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
وأقبل خالد يجوس مكة حتى وافى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على الصفا .
وأما الزبير فتقدم حتى نصب راية رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بالحَجُون عند مسجد الفتح ، وضرب له هناك قبة ، فلم يبرح حتى جاءه رسول الله(صلى الله عليه وسلم) .
الرسول(صلى الله عليه وسلم) يدخل المسجد الحرام ويطهره من الأصنام
ثم نهض رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله ، حتى دخل المسجد ، فأقبل إلى الحجر الأسود ، فاستلمه ، ثم طاف بالبيت ، وفي يده قوس ، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً ، فجعل يطعنها بالقوس ، ويقول : " جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا "[ الإسراء :81 ] ، " قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ " [ سبأ : 49 ] والأصنام تتساقط على وجوهها .
وكان طوافه على راحلته ، ولم يكن محرماً يومئذ ، فاقتصر على الطواف ، فلما أكمله دعا عثمان بن طلحة ، فأخذ منه مفتاح الكعبة ، فأمر بها ففتحت فدخلها ، فرأى فيها الصور ، ورأى فيها صورة إبراهيم ، وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ يستقسمان بالأزلام ، فقال : " قاتلهم الله ، والله ما استقسما بها قط ". ورأى في الكعبة حمامة من عيدان ، فكسرها بيده ، وأمر بالصور فمحيت .
الرسول(صلى الله عليه وسلم) يصلي في الكعبة ثم يخطب أمام قريش
ثم أغلق عليه الباب ، وعلى أسامة وبلال ، فاستقبل الجدار الذي يقابل الباب حتى إذا كان بينه وبينه ثلاثة أذرع وقف ، وجعل عمودين عن يساره ، وعموداً عن يمينه ، وثلاثة أعمدة وراءه ـ وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ـ ثم صلى هناك . ثم دار في البيت ، وكبر في نواحيه ، ووحد الله ، ثم فتح الباب ، وقريش قد ملأت المسجد صفوفاً ينتظرون ماذا يصنع ؟ فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته ، فقال :
"لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا كل مأثُرَة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين ، إلا سِدَانَة البيت وسِقاية الحاج ، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد ـ السوط والعصا ـ ففيه الدية مغلظة ، مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها .
يا معشر قريش ، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء ، الناس من آدم ، وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير" .
**لا تثريب عليكم اليوم :
ثم قال :" يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم ؟ "قالوا : خيرًا ، أخ كريم وابن أخ كريم ، قال:"فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته : " لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ " اذهبوا فأنتم الطلقاء " .
مفتاح البيت إلى أهله
ثم جلس رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في المسجد فقام إليه علي رضي الله عنه ومفتاح الكعبة في يده فقال : اجمع لنا الحجابة مع السقاية ، صلى الله عليك ـ وفي رواية أن الذي قال ذلك هو العباس ـ فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : ( أين عثمان بن طلحة ؟ ) . فدعي له ، فقال له : ( هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم بر ووفاء ) ، وفي رواية ابن سعد في الطبقات أنه قال له حين دفع المفتاح إليه : ( خذوها خالدة تالدة ، لا ينزعها منكم إلا ظالم ، يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته ، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف ) .
بلال يؤذن على الكعبة
وحانت الصلاة ، فأمر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بلالاً أن يصعد فيؤذن على الكعبة ، وأبو سفيان بن حرب ، وعتاب بن أسيد ، والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة ، فقال عتاب : لقد أكرم الله أسيداً ألا يكون سمع هذا ، فيسمع منه ما يغيظه . فقال الحارث : أما والله لو أعلم أنه حق لاتبعته . فقال أبو سفيان : أما والله لا أقول شيئًا ، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء . فخرج عليهم النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال لهم : ( لقد علمت الذي قلتم ) ثم ذكر ذلك لهم .
فقال الحارث وعتاب : نشهد أنك رسول الله ، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك .
صلاة الفتح أو صلاة الشكر
ودخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يومئذ دار أم هانئ بنت أبي طالب ، فاغتسل وصلى ثماني ركعات في بيتها ـ وكان ضحى ـ فظنها من ظنها صلاة الضحى ، وإنما هذه صلاة الفتح ، وأجارت أم هانئ حموين لها ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ( قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ ) ، وقد كان أخوها علي بن أبي طالب أراد أن يقتلهما ، فأغلقت عليهما باب بيتها ، وسألت النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال لها ذلك .
إهدار دماء رجال من أكابر المجرمين
وأهدر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يومئذ دماء تسعة نفر من أكابر المجرمين ، وأمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة ، وهم عبد العزى بن خطل ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وعكرمة بن أبي جهل ، والحارث بن نفيل بن وهب ، ومقيس بن صبابة ، وهبار بن الأسود ، وقينتان كانتا لابن الأخطل ، كانت تغنيان بهجو النبي(صلى الله عليه وسلم) ، وسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب ، وهي التي وجد معها كتاب حاطب .
فأما ابن أبي سرح فجاء به عثمان إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) ، وشفع فيه ، فحقن دمه ، وقبل إسلامه بعد أن أمسك عنه رجاء أن يقوم إليه بعض الصحابة فيقتله ، وكان قد أسلم قبل ذلك وهاجر ، ثم ارتد ورجع إلى مكة .
وأما عكرمة بن أبي جهل ، ففر إلى اليمن ، فاستأمنت له امرأته ، فأمنه النبي(صلى الله عليه وسلم) فتبعته ، فرجع معها وأسلم وحسن إسلامه .
وأما ابن خطل فكان متعلقًا بأستار الكعبة ، فجاء رجل إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) وأخبره ، فقال : ( اقتله ) فقتله.
وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبدالله ، وكان مقيس قد أسلم قبل ذلك ، ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله ، ثم ارتد ولحق بالمشركين .
وأما الحارث فكان شديد الأذى لرسول الله بمكة ، فقتله علي .
وأما هبار بن الأسود فهو الذي كان قد عرض لزينب بنت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حين هاجرت ، فنخس بها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها ، ففر هبار يوم مكة ثم أسلم وحسن إسلامه .
وأما القينتان فقتلت إحداهما، واستؤمن للأخرى فأسلمت ، كما استؤمن لسارة وأسلمت .
قال ابن حجر : وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طلاطل الخزاعي ، قتله علي وذكر الحاكم أيضاً ممن أهدر دمه كعب بن زهير ، وقصته مشهورة ، وقد جاء بعد ذلك وأسلم ومدح ، ووحشي بن حرب ، وهند بنت عتبة امرأه أبي سفيان ، وقد أسلمت ، وأرنب مولاه ابن خطل أيضاً قتلت ، وأم سعد قتلت ، فيما ذكر ابن إسحاق ، فكملت العدة ثمانية رجال وست نسوة ، ويحتمل أن تكون أرنب وأم سعد القينتان ، أختلف في اسمهما أو باعتبار الكنية واللقب .
إسلام صفوان بن أمية وفضالة بن عمير
لم يكن صفوان ممن أهدر دمه ، لكنه بصفته زعيماً كبيراً من زعماء قريش خاف على نفسه وفر ، فاستأمن له عمير بن وهب الجمحي رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فأمنه ، وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة ، فلحقة عمير وهو يريد أن يركب البحر من جدة إلى اليمن فرده ، فقال لرسول الله(صلى الله عليه وسلم) : اجعلني بالخيار شهرين . قال ( أنت بالخيار أربعة أشهر ) ثم أسلم صفوان ، وقد كانت امرأته أسلمت قبله ، فأقرهما على النكاح الأول .
وكان فضالة رجلاً جريئاً جاء إلى رسول الله، وهو في الطواف ، ليقتله ، فأخبر الرسول
(صلى الله عليه وسلم) بما في نفسه فأسلم .
خطبة الرسول(صلى الله عليه وسلم) في اليوم الثاني من الفتح
ولما كان الغد من يوم الفتح قام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في الناس خطيباً ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ومجده بما هو أهله ، ثم قال : ( أيها الناس ، إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً ، أو يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم ، وإنما حلت لي ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد الغائب ) .
وفي رواية : ( لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ولا تلتقط ساقطته إلا من عرفها ، ولا يختلى خلاه ) ، فقال العباس : يا رسول الله ، إلا الإذخر ، فإنه لقينهم وبيوتهم ، فقال : ( إلا الإذخر ) .
وكانت خزاعة قتلت يومئذ رجلاً من بنى ليث بقتيل لهم في الجاهلية ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بهذا الصدد : ( يا معشر خزاعة ، ارفعو أيديكم عن القتل ، فلقد كثر القتل إن نفع ، لقد قتلتم قتيلاً لأدينه ، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين ، إن شاءوا فدم قاتله ، وإن شاءوا فعقله ) .
وفي رواية : فقام رجل من أهل اليمن يقال له : شاه فقال : اكتب لي يا رسول الله ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (اكتبو لأبي شاه) .
تخوف الأنصار من بقاء الرسول(صلى الله عليه وسلم في مكة
ولما تم فتح مكة على الرسول(صلى الله عليه وسلم) - وهي بلده ووطنه ومولده - قال الأنصار فيما بينهم : أترون رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إذ فتح الله عليه أرضه وبلده أن يقيم بها - وهو يدعو على الصفا رافعاً يديه - فلما فرغ من دعائة قال : ( ماذا قلتم ؟ ) قالوا : لا شيء يا رسول الله ، فلم يزل بهم حتى أخبروه ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : ( معاذ الله ، المحيا محياكم ، والممات مماتكم ) .
أخذ البيعة
وحين فتح الله مكة على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) والمسلمين ، تبين لأهل مكة الحق ، وعلموا أن لا سبيل إلى النجاح إلا الإسلام ، فأذعنوا له ، واجتمعوا للبيعة ، فجلس رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على الصفا يبايع الناس ، وعمر بن الخطاب أسفل منه ، يأخذ على الناس فبايعوه على السمع والطاعة فيما استطاعوا .
وفي المدارك : روى أن النبي(صلى الله عليه وسلم) لما فرغ من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء ، وهو على الصفا ، وعمر قاعد أسفل منه ، يبايعهن بأمره ، ويبلغهن عنه ، فجاءت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنكرة ، خوفاً من رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أن يعرفها ، لما صنعت بحمزة ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ( أبايعكن على ألا تشركن بالله شيئاً ) ، فبايع عمر النساء على ألا يشركن بالله شيئا فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : ( ولا تسرقن ) فقالت هند : إن أبا سفيان رجل شحيح ، فإن أنا أصبت من ماله هنات ؟ فقال أبو سفيان : وما أصبت فهو لك حلال ، فضحك رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وعرفها ، فقال : ( وإنك لهند ؟ ) قالت : نعم ، فاعف عما سلف يا نبي الله ، عفا الله عنك .
فقال : ( ولا يزنين ) . فقالت : أو تزني الحرة ؟
فقال : ( ولا يقتلن أولادهن ) . فقالت : ربيناهم صغاراً ، وقتلناهم كباراً ، فأنتم وهم أعلم ـ وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدرـ فضحك عمر حتى استلقى فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
قال : ( ولا يأتين ببهتان ) فقالت : والله إن البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق .
فقال : ( ولا يعصينك في معروف ) فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك.
ولما رجعت جعلت تكسر صنمها وتقول : كنا منك في غرور .
وفي الصحيح : جاءت هند بنت عتبة فقالت : يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض من أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك ، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يغزوا من أهل خبائك . قال : ( وأيضاً ، والذي نفسي بيده ) قالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسيك فهل علي حرج أن أطعم من الذي له عيالنا ؟ قال : ( لا أره إلا بالمعروف ) .
إقامته (صلى الله عليه وسلم) بمكة وعمله فيها
وأقام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بمكة تسعة عشر يومًا يجدد معالم الإسلام ، ويرشد الناس إلى الهدى والتقى ، وخلال هذه الأيام أمر أبا أسيد الخزاعي ، فجدد أنصاب الحرم ، وبث سراياه للدعوة إلى الإسلام ، ولكسر الأوثان التي كانت حول مكة ، فكسرت كلها ، ونادى مناديه بمكة : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره
وتحركت كل كتيبة من الجيش الإسلامي على الطريق التي كلفت الدخول منها .
فأما خالد وأصحابه فلم يلقهم أحد من المشركين إلا أناموه . وقتل من أصحابه من المسلمين كُرْز بن جابر الفِهْرِي وخُنَيْس بن خالد بن ربيعة . كانا قد شذا عن الجيش ، فسلكا طريقاً غير طريقه فقتلا جميعاً ، وأما سفهاء قريش فلقيهم خالد وأصحابه بالخَنْدَمَة فناوشوهم شيئا من قتال ، فأصابوا من المشركين اثني عشر رجلاً ، فانهزم المشركون ، وانهزم حِمَاس بن قيس ـ الذي كان يعد السلاح لقتال المسلمين ـ حتى دخل بيته ، فقال لامرأته : أغلقي على بابي .
فقالت : وأين ما كنت تقول ؟ فقال :
إنك لو شهـدت يوم الخندمة
واستقبلتنا بالسيوف المسلمة
ضربـاً فلا يسمع إلا غمغمه
إذ فر صفوان وفر عكرمة
يقطعن كل ساعد وجمجمه
لهـم نهيت خلفنا وهمهمه
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
وأقبل خالد يجوس مكة حتى وافى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على الصفا .
وأما الزبير فتقدم حتى نصب راية رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بالحَجُون عند مسجد الفتح ، وضرب له هناك قبة ، فلم يبرح حتى جاءه رسول الله(صلى الله عليه وسلم) .
الرسول(صلى الله عليه وسلم) يدخل المسجد الحرام ويطهره من الأصنام
ثم نهض رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله ، حتى دخل المسجد ، فأقبل إلى الحجر الأسود ، فاستلمه ، ثم طاف بالبيت ، وفي يده قوس ، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً ، فجعل يطعنها بالقوس ، ويقول : " جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا "[ الإسراء :81 ] ، " قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ " [ سبأ : 49 ] والأصنام تتساقط على وجوهها .
وكان طوافه على راحلته ، ولم يكن محرماً يومئذ ، فاقتصر على الطواف ، فلما أكمله دعا عثمان بن طلحة ، فأخذ منه مفتاح الكعبة ، فأمر بها ففتحت فدخلها ، فرأى فيها الصور ، ورأى فيها صورة إبراهيم ، وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ يستقسمان بالأزلام ، فقال : " قاتلهم الله ، والله ما استقسما بها قط ". ورأى في الكعبة حمامة من عيدان ، فكسرها بيده ، وأمر بالصور فمحيت .
الرسول(صلى الله عليه وسلم) يصلي في الكعبة ثم يخطب أمام قريش
ثم أغلق عليه الباب ، وعلى أسامة وبلال ، فاستقبل الجدار الذي يقابل الباب حتى إذا كان بينه وبينه ثلاثة أذرع وقف ، وجعل عمودين عن يساره ، وعموداً عن يمينه ، وثلاثة أعمدة وراءه ـ وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ـ ثم صلى هناك . ثم دار في البيت ، وكبر في نواحيه ، ووحد الله ، ثم فتح الباب ، وقريش قد ملأت المسجد صفوفاً ينتظرون ماذا يصنع ؟ فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته ، فقال :
"لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا كل مأثُرَة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين ، إلا سِدَانَة البيت وسِقاية الحاج ، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد ـ السوط والعصا ـ ففيه الدية مغلظة ، مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها .
يا معشر قريش ، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء ، الناس من آدم ، وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير" .
**لا تثريب عليكم اليوم :
ثم قال :" يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم ؟ "قالوا : خيرًا ، أخ كريم وابن أخ كريم ، قال:"فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته : " لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ " اذهبوا فأنتم الطلقاء " .
مفتاح البيت إلى أهله
ثم جلس رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في المسجد فقام إليه علي رضي الله عنه ومفتاح الكعبة في يده فقال : اجمع لنا الحجابة مع السقاية ، صلى الله عليك ـ وفي رواية أن الذي قال ذلك هو العباس ـ فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : ( أين عثمان بن طلحة ؟ ) . فدعي له ، فقال له : ( هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم بر ووفاء ) ، وفي رواية ابن سعد في الطبقات أنه قال له حين دفع المفتاح إليه : ( خذوها خالدة تالدة ، لا ينزعها منكم إلا ظالم ، يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته ، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف ) .
بلال يؤذن على الكعبة
وحانت الصلاة ، فأمر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بلالاً أن يصعد فيؤذن على الكعبة ، وأبو سفيان بن حرب ، وعتاب بن أسيد ، والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة ، فقال عتاب : لقد أكرم الله أسيداً ألا يكون سمع هذا ، فيسمع منه ما يغيظه . فقال الحارث : أما والله لو أعلم أنه حق لاتبعته . فقال أبو سفيان : أما والله لا أقول شيئًا ، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء . فخرج عليهم النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال لهم : ( لقد علمت الذي قلتم ) ثم ذكر ذلك لهم .
فقال الحارث وعتاب : نشهد أنك رسول الله ، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك .
صلاة الفتح أو صلاة الشكر
ودخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يومئذ دار أم هانئ بنت أبي طالب ، فاغتسل وصلى ثماني ركعات في بيتها ـ وكان ضحى ـ فظنها من ظنها صلاة الضحى ، وإنما هذه صلاة الفتح ، وأجارت أم هانئ حموين لها ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ( قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ ) ، وقد كان أخوها علي بن أبي طالب أراد أن يقتلهما ، فأغلقت عليهما باب بيتها ، وسألت النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال لها ذلك .
إهدار دماء رجال من أكابر المجرمين
وأهدر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يومئذ دماء تسعة نفر من أكابر المجرمين ، وأمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة ، وهم عبد العزى بن خطل ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وعكرمة بن أبي جهل ، والحارث بن نفيل بن وهب ، ومقيس بن صبابة ، وهبار بن الأسود ، وقينتان كانتا لابن الأخطل ، كانت تغنيان بهجو النبي(صلى الله عليه وسلم) ، وسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب ، وهي التي وجد معها كتاب حاطب .
فأما ابن أبي سرح فجاء به عثمان إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) ، وشفع فيه ، فحقن دمه ، وقبل إسلامه بعد أن أمسك عنه رجاء أن يقوم إليه بعض الصحابة فيقتله ، وكان قد أسلم قبل ذلك وهاجر ، ثم ارتد ورجع إلى مكة .
وأما عكرمة بن أبي جهل ، ففر إلى اليمن ، فاستأمنت له امرأته ، فأمنه النبي(صلى الله عليه وسلم) فتبعته ، فرجع معها وأسلم وحسن إسلامه .
وأما ابن خطل فكان متعلقًا بأستار الكعبة ، فجاء رجل إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) وأخبره ، فقال : ( اقتله ) فقتله.
وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبدالله ، وكان مقيس قد أسلم قبل ذلك ، ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله ، ثم ارتد ولحق بالمشركين .
وأما الحارث فكان شديد الأذى لرسول الله بمكة ، فقتله علي .
وأما هبار بن الأسود فهو الذي كان قد عرض لزينب بنت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حين هاجرت ، فنخس بها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها ، ففر هبار يوم مكة ثم أسلم وحسن إسلامه .
وأما القينتان فقتلت إحداهما، واستؤمن للأخرى فأسلمت ، كما استؤمن لسارة وأسلمت .
قال ابن حجر : وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طلاطل الخزاعي ، قتله علي وذكر الحاكم أيضاً ممن أهدر دمه كعب بن زهير ، وقصته مشهورة ، وقد جاء بعد ذلك وأسلم ومدح ، ووحشي بن حرب ، وهند بنت عتبة امرأه أبي سفيان ، وقد أسلمت ، وأرنب مولاه ابن خطل أيضاً قتلت ، وأم سعد قتلت ، فيما ذكر ابن إسحاق ، فكملت العدة ثمانية رجال وست نسوة ، ويحتمل أن تكون أرنب وأم سعد القينتان ، أختلف في اسمهما أو باعتبار الكنية واللقب .
إسلام صفوان بن أمية وفضالة بن عمير
لم يكن صفوان ممن أهدر دمه ، لكنه بصفته زعيماً كبيراً من زعماء قريش خاف على نفسه وفر ، فاستأمن له عمير بن وهب الجمحي رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فأمنه ، وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة ، فلحقة عمير وهو يريد أن يركب البحر من جدة إلى اليمن فرده ، فقال لرسول الله(صلى الله عليه وسلم) : اجعلني بالخيار شهرين . قال ( أنت بالخيار أربعة أشهر ) ثم أسلم صفوان ، وقد كانت امرأته أسلمت قبله ، فأقرهما على النكاح الأول .
وكان فضالة رجلاً جريئاً جاء إلى رسول الله، وهو في الطواف ، ليقتله ، فأخبر الرسول
(صلى الله عليه وسلم) بما في نفسه فأسلم .
خطبة الرسول(صلى الله عليه وسلم) في اليوم الثاني من الفتح
ولما كان الغد من يوم الفتح قام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في الناس خطيباً ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ومجده بما هو أهله ، ثم قال : ( أيها الناس ، إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً ، أو يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم ، وإنما حلت لي ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد الغائب ) .
وفي رواية : ( لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ولا تلتقط ساقطته إلا من عرفها ، ولا يختلى خلاه ) ، فقال العباس : يا رسول الله ، إلا الإذخر ، فإنه لقينهم وبيوتهم ، فقال : ( إلا الإذخر ) .
وكانت خزاعة قتلت يومئذ رجلاً من بنى ليث بقتيل لهم في الجاهلية ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بهذا الصدد : ( يا معشر خزاعة ، ارفعو أيديكم عن القتل ، فلقد كثر القتل إن نفع ، لقد قتلتم قتيلاً لأدينه ، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين ، إن شاءوا فدم قاتله ، وإن شاءوا فعقله ) .
وفي رواية : فقام رجل من أهل اليمن يقال له : شاه فقال : اكتب لي يا رسول الله ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (اكتبو لأبي شاه) .
تخوف الأنصار من بقاء الرسول(صلى الله عليه وسلم في مكة
ولما تم فتح مكة على الرسول(صلى الله عليه وسلم) - وهي بلده ووطنه ومولده - قال الأنصار فيما بينهم : أترون رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إذ فتح الله عليه أرضه وبلده أن يقيم بها - وهو يدعو على الصفا رافعاً يديه - فلما فرغ من دعائة قال : ( ماذا قلتم ؟ ) قالوا : لا شيء يا رسول الله ، فلم يزل بهم حتى أخبروه ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : ( معاذ الله ، المحيا محياكم ، والممات مماتكم ) .
أخذ البيعة
وحين فتح الله مكة على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) والمسلمين ، تبين لأهل مكة الحق ، وعلموا أن لا سبيل إلى النجاح إلا الإسلام ، فأذعنوا له ، واجتمعوا للبيعة ، فجلس رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على الصفا يبايع الناس ، وعمر بن الخطاب أسفل منه ، يأخذ على الناس فبايعوه على السمع والطاعة فيما استطاعوا .
وفي المدارك : روى أن النبي(صلى الله عليه وسلم) لما فرغ من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء ، وهو على الصفا ، وعمر قاعد أسفل منه ، يبايعهن بأمره ، ويبلغهن عنه ، فجاءت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنكرة ، خوفاً من رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أن يعرفها ، لما صنعت بحمزة ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ( أبايعكن على ألا تشركن بالله شيئاً ) ، فبايع عمر النساء على ألا يشركن بالله شيئا فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : ( ولا تسرقن ) فقالت هند : إن أبا سفيان رجل شحيح ، فإن أنا أصبت من ماله هنات ؟ فقال أبو سفيان : وما أصبت فهو لك حلال ، فضحك رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وعرفها ، فقال : ( وإنك لهند ؟ ) قالت : نعم ، فاعف عما سلف يا نبي الله ، عفا الله عنك .
فقال : ( ولا يزنين ) . فقالت : أو تزني الحرة ؟
فقال : ( ولا يقتلن أولادهن ) . فقالت : ربيناهم صغاراً ، وقتلناهم كباراً ، فأنتم وهم أعلم ـ وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدرـ فضحك عمر حتى استلقى فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
قال : ( ولا يأتين ببهتان ) فقالت : والله إن البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق .
فقال : ( ولا يعصينك في معروف ) فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك.
ولما رجعت جعلت تكسر صنمها وتقول : كنا منك في غرور .
وفي الصحيح : جاءت هند بنت عتبة فقالت : يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض من أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك ، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يغزوا من أهل خبائك . قال : ( وأيضاً ، والذي نفسي بيده ) قالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسيك فهل علي حرج أن أطعم من الذي له عيالنا ؟ قال : ( لا أره إلا بالمعروف ) .
إقامته (صلى الله عليه وسلم) بمكة وعمله فيها
وأقام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بمكة تسعة عشر يومًا يجدد معالم الإسلام ، ويرشد الناس إلى الهدى والتقى ، وخلال هذه الأيام أمر أبا أسيد الخزاعي ، فجدد أنصاب الحرم ، وبث سراياه للدعوة إلى الإسلام ، ولكسر الأوثان التي كانت حول مكة ، فكسرت كلها ، ونادى مناديه بمكة : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره