وقعة الحديبية ( في ذي القعدة سنة 6 هـ ) - سبب عمرة الحديبية)
ولما تطورت الظروف في الجزيرة العربية إلى حد كبير لصالح المسلمين ، أخذت طلائع الفتح الأعظم ونجاح الدعوة الإسلامية تبدو شيئاً فشيئاً ، وبدأت التمهيدات لإقرار حق المسلمين في أداء عبادتهم في المسجد الحرام ، الذي كان قد صد عنه المشركون منذ ستة أعوام .
أُري رسول الله(صلى اله عليه وسلم) في المنام ، وهو بالمدينة ، أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام ، وأخذ مفتاح الكعبة ، وطافوا واعتمروا ، وحلق بعضهم وقصر بعضهم ، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا ، وحسبوا أنهم داخلو مكة عامهم ذلك ، وأخبر أصحابه أنه معتمر فتجهزوا للسفر .
استنفار المسلمين
واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا معه ، فأبطأ كثير من الأعراب ، أما هو فغسل ثيابه ، وركب ناقته القَصْواء ، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم أو نُمَيْلَة الليثي . وخرج منها يوم الإثنين غرة ذي القعدة سنة 6 هـ ، ومعه زوجته أم سلمة ، في ألف وأربعمائة ، ويقال : ألف وخمسمائة ، ولم يخرج معه بسلاح ، إلا سلاح المسافر : السيوف في القُرُب .
المسلمون يتحركون إلى مكة
وتحرك في اتجاه مكة ، فلما كان بذي الحُلَيْفَة قَلَّد الهدي وأشْعَرَه ، وأحرم بالعمرة ، ليأمن الناس من حربه ، وبعث بين يديه عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش ، حتى إذا كان قريباً من عُسْفَان أتاه عينه ، فقال : إني تركت كعب بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش ، وجمعوا لك جموعاً ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ، واستشار النبي(صلى اله عليه وسلم) أصحابه ، وقال : " أترون نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم ؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين ، وإن نجوا يكن عنق قطعها الله ، أم تريدون أن نؤم هذا البيت فمن صدنا عنه قاتلناه ؟ " فقال أبو بكر : الله ورسوله أعلم ، إنما جئنا معتمرين ، ولم نجئ لقتال أحد ، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه ، فقال النبي(صلى اله عليه وسلم) : ( فروحوا ) ، فراحوا . أخرجه البخاري (4179،4178)
) محاولة قريش صد المسلمين عن البيت)
وكانت قريش لما سمعت بخروج النبي(صلى اله عليه وسلم) عقدت مجلساً استشارياً قررت فيه صد المسلمين عن البيت كيفما يمكن ، فبعد أن أعرض رسول الله(صلى اله عليه وسلم) عن الأحابيش ، نقل إليه رجل من بني كعب أن قريشاً نازلة بذي طُوَي ، وأن مائتي فارس في قيادة خالد بن الوليد مرابطة بكُرَاع الغَمِيم في الطريق الرئيسي الذي يوصل إلى مكة . وقد حاول خالد صد المسلمين ، فقام بفرسانه إزاءهم يتراآى الجيشان . ورأى خالد المسلمين في صلاة الظهر يركعون ويسجدون ، فقال : لقد كانوا على غرة ، لو كنا حملنا عليهم لأصبنا منهم ، ثم قرر أن يميل على المسلمين ـ وهم في صلاة العصر ـ ميلة واحدة ، ولكن الله أنزل حكم صلاة الخوف ، ففاتت الفرصة خالداً .
تبديل الطريق ومحاولة الاجتناب ع اللقاء الدامي
وأخذ رسول الله(صلى اله عليه وسلم) طريقاً وَعْرًا بين شعاب ، وسلك بهم ذات اليمين بين ظهري الحَمْض في طريق تخرجه على ثنية المُرَار مهبط الحديبية من أسفل مكة ، وترك الطريق الرئيسي الذي يفضي إلى الحرم ماراً بالتنعيم ، تركه إلى اليسار ، فلما رأى خالد قَتَرَة الجيش الإسلامي قد خالفوا عن طريقه انطلق يركض نذيراً لقريش .
وسار رسول الله(صلى اله عليه وسلم) حتى إذا كان بثنية المرار بركت راحلته ، فقال الناس : حَلْ حَلْ ، فألَحَّتْ ، فقالوا : خلأت القصواء ، فقال النبي(صلى اله عليه وسلم) : " ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل "، ثم قال: "والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها " ، ثم زجرها فوثبت به ، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية ، على ثَمَد قليل الماء ، إنما يتبرضه الناس تبرضاً ، فلم يلبث أن نزحوه . فشكوا إلى رسول الله(صلى اله عليه وسلم) العطش ، فانتزع سهماً من كنانته ، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه ، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا .
بديل يتوسط رسول الله(صلى اله عليه وسلم) وقريش
ولما اطمأن رسول الله(صلى اله عليه وسلم) جاء بديل بن وَرْقَاء الخزاعي في نفر من خزاعة ، وكانت خزاعة عَيْبَة نُصْح لرسول الله(صلى اله عليه وسلم) من أهل تُهَامَة ، فقال : إني تركت كعب ابن لؤي ، نزلوا أعداد مياه الحديبية ، معهم العُوذ المطَافِيل ، وهم مقاتلوك وصادَوك عن البيت . قال رسول الله(صلى اله عليه وسلم) : " إنا لم نجئ لقتال أحد ، ولكنا جئنا معتمرين ، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم ، فإن شاءوا ماددتهم ، ويخلوا بيني وبين الناس ، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا،وإلا فقد جَمُّوا ، وإن هم أبوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذن الله أمره ".
قال بديل : سأبلغهم ما تقول ، فانطلق حتى أتى قريشاً ، فقال : إني قد جئتكم من عند هذا الرجل ، وسمعته يقول قولاً ، فإن شئتم عرضته عليكم .
فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء . وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته . قال : سمعته يقول كذا وكذا ، فبعثت قريش مِكْرَز بن حفص ، فلما رآه رسول الله(صلى اله عليه وسلم) قال : هذا رجل غادر ، فلما جاء وتكلم قال له مثل ما قال لبديل وأصحابه ، فرجع إلى قريش وأخبرهم .
رسل قريش
ثم قال رجل من كنانة ـ اسمه الحُلَيْس بن علقمة : دعوني آته . فقالوا : آته ، فلما أشرف على النبي(صلى اله عليه وسلم) وأصحابه قال رسول الله(صلى اله عليه وسلم) : ( هذا فلان ، وهو من قوم يعظمون البدن ، فابعثوها ) ، فبعثوها له ، واستقبله القوم يلبون ، فلما رأى ذلك . قال : سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت ، فرجع إلى أصحابه ، فقال : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت ، وما أرى أن يصدوا ، وجرى بينه وبين قريش كلام أحفظه .
فقال عروة بن مسعود الثقفي : إن هذا قد عرض عليكم خطة رُشْد فاقبلوها ، ودعوني آته ، فأتاه ، فجعل يكلمه ، فقال له النبي (صلى اله عليه وسلم) نحواً من قوله لبديل . فقال له عروة عند ذلك : أي محمد أرأيت لو استأصلت قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ، وإن تكن الأخرى فوالله إني لا أرى وجوها ، وإني أرى أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك ، قال له أبو بكر : امصص بَظْر اللات ، أنحن نفر عنه ؟ قال : من ذا ؟ قالوا : أبو بكر ، قال : أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت عندي لم أجْزِكَ بها لأجبتك . وجعل يكلم النبي(صلى اله عليه وسلم) ، وكلما كلمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة عند رأس النبي(صلى اله عليه وسلم) ، ومعه السيف وعليه المِغْفَرُ ، فكلما أهوى عروة إلى لحية النبي(صلى اله عليه وسلم) ضرب يده بنعل السيف ، وقال : أخر يدك عن لحية رسول الله(صلى اله عليه وسلم) ، فرفع عروة رأسه ، وقال : من ذا ؟ قالوا : المغيرة بن شعبة ، فقال : أي عُذَر ، أو لستُ أسعي في غَدْرَتِك ؟ وكان المغيرة صَحِبَ قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم ، فقال النبـي(صلى اله عليه وسلم) : ( أما الإسلام فأقبلُ ، وأما المال فلست منـه فـي شيء ) ( وكان المغيرة ابن أخي عروة ) .
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله(صلى اله عليه وسلم) وتعظيمهم له ، فرجع إلى أصحابه ، فقال : أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك ، على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً ، والله إن تَنَخَّمَ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيماً له ، وقد عرض عليكم خطة رُشْدٍ فاقبلوها.البخاري (2581)
هو الذي كف أيديهم عنكم
ولما رأى شباب قريش الطائشون ، الطامحون إلى الحرب ، رغبة زعمائهم في الصلح فكروا في خطة تحول بينهم وبين الصلح ، فقرروا أن يخرجوا ليلاً ، ويتسللوا إلى معسكر المسلمين ، ويحدثوا أحداثاً تشعل نار الحرب ، وفعلاً قد قاموا بتنفيذ هذا القرار ، فقد خرج سبعون أو ثمانون منهم ليلاً فهبطوا من جبل التنعيم ، وحاولوا التسلل إلى معسكر المسلمين ، غير أن محمد بن مسلمة قائد الحرس اعتقلهم جميعاً .
ورغبة في الصلح أطلـق سراحهم النبي(صلى اله عليه وسلم) وعفا عنـهم ، وفي ذلك أنزل الله : "وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ " [ الفتح : 24 ]
عثمان بن عفان سفيراً إلى قريش
وحينئذ أراد رسول الله(صلى اله عليه وسلم) أن يبعث سفيراً يؤكد لدى قريش موقفه وهدفه من هذا السفر ، فدعا عمر بن الخطاب ليرسله إليهم ، فاعتذر قائلاً : يا رسول الله ، ليس لي أحد بمكة من بني عدي بن كعب يغضب لي إن أوذيت ، فأرسل عثمان بن عفان ، فإن عشيرته بها ، وإنه مبلغ ما أردت ، فدعاه ، وأرسله إلى قريش ، وقال : أخبرهم أنا لم نأت لقتال ، وإنما جئنا عماراً ، وادعهم إلى الإسلام ، وأمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين ، ونساء مؤمنات ، فيبشرهم بالفتح ، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة ، حتى لا يستخفي فيها أحد بالإيمان .
فانطلق عثمان حتى مر على قريش بِبَلْدَح ، فقالوا : أين تريد ؟ فقال : بعثني رسول الله(صلى اله عليه وسلم) بكذا وكذا ، قالوا : قد سمعنا ما تقول ، فانفذ لحاجتك ، وقام إليه أبان ابن سعيد بن العاص ، فرحب به ثم أسرج فرسه ، فحمل عثمان على الفرس ، وأجاره وأردفه حتى جاء مكة ، وبلغ الرسالة إلى زعماء قريش ، فلما فرغ عرضوا عليه أن يطوف بالبيت ، فرفض هذا العرض ، وأبى أن يطوف حتى يطوف رسول الله(صلى اله عليه وسلم) .
إشاعة مقتل عثمان وبيعة الرضوان
واحتبسته قريش عندها ـ ولعلهم أرادوا أن يتشاوروا فيما بينهم في الوضع الراهن ، ويبرموا أمرهم ، ثم يردوا عثمان بجواب ما جاء به من الرسالة ـ وطال الاحتباس ، فشاع بين المسلمين أن عثمان قتل ، فقال رسول الله(صلى اله عليه وسلم) لما بلغته الإشاعة : ( لا نبرح حتى نناجز القوم ) ، ثم دعا أصحابه إلى البيعة ، فثاروا إليه يبايعونه على ألا يفروا ، وبايعته جماعة على الموت ، وأول من بايعه أبو سنان الأسدي ، وبايعه سلمة بن الأكوع على الموت ثلاث مرات ، في أول الناس ووسطهم وآخرهم ، وأخذ رسول الله (صلى اله عليه وسلم) بيد نفسه وقال : ( هذه عن عثمان ) . ولما تمت البيعة جاء عثمان فبايعه ، ولم يتخلف عن هذه البيعة إلا رجل من المنافقين يقال له : جَدُّ بن قَيْس .
أخذ رسول الله(صلى اله عليه وسلم) هذه البيعة تحت شجرة ، وكان عمر آخذا بيده ، ومَعْقِل بن يَسَار آخذا بغصن الشجرة يرفعه عن رسول الله (صلى اله عليه وسلم)، وهذه هي بيعة الرضوان التي أنزل الله فيها : " لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ "الآية [ الفتح : 18 ]
إبرام الصلح وبنوده
وعرفت قريش ضيق الموقف ، فأسرعت إلى بعث سُهَيْل بن عمرو لعقد الصلح ، وأكدت له ألا يكون في الصلح إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، لا تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً ، فأتاه سهيل بن عمرو ، فلما رآه عليه السلام قال : ( قد سهل لكم أمركم ) ، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل ، فجاء سهيل فتكلم طويلاً ، ثم اتفقا على قواعد الصلح ، وهي هذه :
1- الرسول(صلى اله عليه وسلم) يرجع من عامه ، فلا يدخل مكة ، وإذا كان العام القابل دخلها المسلمون فأقاموا بها ثلاثاً ، معهم سلاح الراكب ، السيوف في القُرُب ، ولا يتعرض لهم بأي نوع من أنواع التعرض .
2-. وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين ، يأمن فيها الناس،ويكف بعضهم عن بعض .
3- . من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءاً من ذلك الفريق ، فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق .
4- من أتى محمداً من قريش من غير إذن وليه ـ أي هارباً منهم ـ رده عليهم ، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد ـ أي هارباً منه ـ لم يرد عليه .
ثم دعا علياً ليكتب الكتاب ، فأملى عليه : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فقال سهيل : أما الرحمن فو الله لا ندري ما هو ؟ ولكن اكتب : باسمك اللّهم . فأمر النبي(صلى اله عليه وسلم) بذلك . ثم أملى : ( هذا ما صالح عليه محمد رسول الله ) فقال سهيل : لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ، ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله فقال : ( إني رسول الله وإن كذبتموني ) ، وأمر علياً أن يكتب : محمد بن عبد الله ، ويمحو لفظ رسول الله ، فأبي علي أن يمحو هذا اللفظ . فمحاه(صلى اله عليه وسلم) بيده ، ثم تمت كتابة الصحيفة ، ولما تم الصلح دخلت خزاعة في عهد رسول الله(صلى اله عليه وسلم) ـ وكانوا حليف بني هاشم منذ عهد عبد المطلب ، فكان دخولهم في هذا العهد تأكيداً لذلك الحلف القديم ـ ودخلت بنو بكر في عهد قريش .
رد أبي جندل
وبينما الكتاب يكتب إذ جاء أبو جَنْدَل بن سهيل يَرْسُفُ في قيوده ، قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين ، فقال سهيل : هذا أول ما أقاضيك عليه على أن ترده فقال النبي(صلى اله عليه وسلم) : ( إنا لم نقض الكتاب بعد ) .
فقال : فو الله إذا لا أقاضيك على شيء أبداً . فقال النبي(صلى اله عليه وسلم) : ( فأجزه لي ) . قال : ما أنا بمجيزه لك . قال : ( بلى فافعل ) ، قال : ما أنا بفاعل . وقد ضرب سهيل أبا جندل في وجهه ، وأخذ بتلابيبه وجره ، ليرده إلى المشركين ، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته : يا معشر المسلمين ، أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني ؟ فقال رسول الله(صلى اله عليه وسلم) : ( يا أبا جندل ، اصبر واحتسب ، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً ، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً ، وأعطيناهم على ذلك ، وأعطونا عهد الله فلا نغدر بهم ) .
فوثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول : اصبر يا أبا جندل ، فإنما هم المشركون ، وإنما دم أحدهم دم كلب ، ويدني قائم السيف منه ، يقول عمر : رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه ، فضن الرجل بأبيه ، ونفذت القضية.
أخرجه البخاري (2581)
النحر والحلق للحل عن العمرة
ولما فرغ رسول الله(صلى اله عليه وسلم) من قضية الكتاب قال : ( قوموا فانحروا ) ، فو الله ما قام منهم أحد حتى قال ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت : يا رسول الله ، أتحب ذلك ؟ اخرج ، ثم لا تكلم أحداً كلمة حتى تنحر بدنك ، وتدعو حالقك فيحلقك ، فقام فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك ، نحر بُدْنَه ، ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضاً ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً ، وكانوا نحروا البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة ، ونحر رسول الله(صلى اله عليه وسلم) جملاً كان لأبي جهل ، كان في أنفه بُرَةٌ من فضة ، ليغيظ به المشركين ، ودعا رسول الله(صلى اله عليه وسلم) للمحلقين ثلاثاً بالمغفرة وللمقصرين مرة . وفي هذا السفر أنزل الله فدية الأذى لمن حلق رأسه ، بالصيام ، أو الصدقة ، أو النسك ، في شأن كعب بن عُجْرَة .
الاباء عن رد المهاجرات
ثم جاء نسوة مؤمنات فسأل أولياؤهن أن يردهن عليهم بالعهد الذي تم في الحديبية ، فرفض طلبهم هذا ، بدليل أن الكلمة التي كتبت في المعاهدة بصدد هذا البند هي : ( وعلى أنه لا يأتيك منا رجل ، وإن كان على دينك إلا رددته علينا ) ، فلم تدخل النساء في العقد رأساً . وأنزل الله في ذلك : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ "، حتى بلغ " بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ " [ الممتحنة : 10 ] فكان رسول الله"إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا " إلخ [ سورة الفتح : 1 ] ، يمتحنهن بقوله تعالى : " إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا " إلخ [ الممتحنة : 12 ] ، فمن أقرت بهذه الشروط قال لها : ( قد بايعتك ) ، ثم لم يكن يردهن .
وطلق المسلمون زوجاتهم الكافرات بهذا الحكم . فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك ، تزوج بإحداهما معاوية ، وبالأخرى صفوان بن أمية .
ماذا يتمخض عن بنود المعاهدة
هذا هو صلح الحديبية ، ومن سبر أغوار بنوده مع خلفياته لا يشك أنه فتح عظيم للمسلمين ، فقريش لم تكن تعترف بالمسلمين أي اعتراف ، بل كانت تهـدف استئصـال شأفتهم ، وتنتظر أن تشهد يوماً ما نهايتهم ، وكانت تحاول بأقصى قوتها الحيلولة بين الدعوة الإسلامية وبين الناس ، بصفتها ممثلة الزعامة الدينية والصدارة الدنيوية في جزيرة العرب ، ومجرد الجنوح إلى الصلح اعتراف بقوة المسلمين ، وأن قريشاً لا تقدر على مقاومتهم ، ثم البند الثالث يدل بفحواه على أن قريشاً نسيت صدارتها الدنيوية وزعامتها الدينية ، وأنها لاتهمها الآن إلا نفسها ، أما سائر الناس وبقية جزيرة العرب فلو دخلت في الإسلام بأجمعها ، فلا يهم ذلك قريشاً ، ولا تتدخل في ذلك بأي نوع من أنواع التدخل . أليس هذا فشلاً ذريعاً بالنسبة إلى قريش ؟ وفتحا مبيناً بالنسبة إلى المسلمين ؟ إن الحروب الدامية التي جرت بين المسلمين وبين أعدائهم لم تكن أهدافها ـ بالنسبة إلى المسلمين ـ مصادرة الأموال وإبادة الأرواح ، وإفناء الناس ، أو إكراه العدو على اعتناق الإسلام ، وإنما كان الهدف الوحيد الذي يهدفه المسلمون من هذه الحروب هو الحرية الكاملة للناس فـي العقيدة والدين " فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر " [ الكهف : 29 ] . لا يحول بينهم وبين ما يريدون أي قوة من القوات ، وقد حصل هذا الهدف بجميع أجزائه ولوازمه ، وبطريق ربما لا يحصل بمثله في الحروب مع الفتح المبين ، وقد كسب المسلمون لأجل هذه الحرية نجاحاً كبيراً في الدعوة ، فبينما كان عدد المسلمين لا يزيد على ثلاثة آلاف قبل الهدنة صار عدد الجيش الإسلامي في سنتين عند فتح مكة عشرة آلاف .
أما البند الثاني فهو جزء ثان لهذا الفتح المبين ، فالمسلمون لم يكونوا بادئين بالحروب ، وإنما بدأتها قريش ، يقول الله تعالى : " وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ " [ التوبة : 13 ] ، أما المسلمون فلم يكن المقصود من دورياتهم العسكرية إلا أن تفيق قريش عن غطرستها وصدها عن سبيل الله ، وتعمل معهم بالمساواة ، كل من الفريقين يعمل على شاكلته ، فالعقد بوضع الحرب عشر سنين حد لهذه الغطرسة والصد ، ودليل على فشل من بدأ بالحرب وعلى ضعفه وانهياره .
أما البند الأول فهو حد لصد قريش عن المسجد الحرام ، فهو أيضاً فشل لقريش ، وليس فيه ما يشفي قريشاً سوي أنها نجحت في الصد لذلك العام الواحد فقط .
أعطت قريش هذه الخلال الثلاث للمسلمين ، وحصلت بإزائها خلة واحدة فقط ، وهي ما في البند الرابــع ، ولـكن تلك الخلة تافهة جداً ، ليس فيها شيء يضر بالمسلمين ، فمعلوم أن المسلم ما دام مسلماً لا يفر عن الله ورسوله ، وعن مدينة الإسلام ، ولا يفر إلا إذا ارتد عن الإسلام ظاهراً أو باطناً ، فإذا ارتد فلا حاجة إليه للمسلمين ، وانفصاله من المجتمع الإسلامي خير من بقائه فيه ، وهذا الذي أشار إليه رسول الله(صلى اله عليه وسلم) بقوله : ( إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ) . وأما من أسلم من أهل مكة فهو وإن لم يبق للجوئه إلى المدينة سبيل لكن أرض الله واسعة ، ألم تكن الحبشة واسعة للمسلمين حينما لم يكن يعرف أهل المدينة عن الإسلام شيئاً ؟ وهذا الذي أشار إليه النبي بقوله : ( ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً ) .
والأخذ بمثل هذا الاحتفاظ ، وإن كان مظهر الاعتزاز لقريش ، لكنه في الحقيقة ينبئ عن شدة انزعاج قريش وهلعهم وخَوَرِهم ، وعن شدة خوفهم على كيانهم الوثني ، وكأنهم كانوا قد أحسوا أن كيانهم اليوم على شفا جُرُف هار لا بد له من الأخذ بمثل هذا الاحتفاظ . وما سمح به النبي(صلى اله عليه وسلم) من أنه لا يسترد من فرّ إلى قريش من المسلمين ، فليس هذا إلا دليلاً على أنه يعتمد على تثبيت كيانه وقوته كمال الاعتماد ، ولا يخاف عليه من مثل هذا الشرط .
حزن المسلمين ومناقشة عمر مع النبي(صلى اله عليه وسلم)
هذه هي حقيقة بنود هذا الصلح ، لكن هناك ظاهرتان عمت لأجلهما المسلمين كآبة وحزن شديد .
الأولى : أنه كان قد أخبرهم أنا سنأتي البيت فنطوف به، فما له يرجع ولم يطف به ؟
الثانية : أنه رسول الله(صلى اله عليه وسلم) وعلى الحق ، والله وعد إظهار دينه ، فما له قبل ضغط قريش ، وأعطي الدَّنِيَّةَ في الصلح ؟
كانت هاتان الظاهرتان مثار الريب والشكوك والوساوس والظنون ، وصارت مشاعر المسلمين لأجلهما جريحة ، بحيث غلب الهم والحزن على التفكير في عواقب بنود الصلح . ولعل أعظمهم حزناً كان عمر بن الخطاب ، فقد جاء إلى النبي(صلى اله عليه وسلم) وقال : يا رسول الله ، ألسنا على حق وهم على باطل ؟ قـال : ( بلى ) . قـال : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال : ( بلى ). قال : ففيم نعطي الدنية في ديننا ، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؟ قال : ( يا ابن الخطاب ، إني رسول الله ولست أعصيه ، وهو ناصري ولن يضيعني أبداً ) . قال : أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال : ( بلى ، فأخبرتك أنا نأتيه العام ؟ ) قال : لا . قال : ( فإنك آتيه ومطوف به ) .
ثم انطلق عمر متغيظاً فأتى أبا بكر ، فقال له كما قال لرسول الله(صلى اله عليه وسلم) ، ورد عليه أبو بكر ، كما رد عليه رسول الله(صلى اله عليه وسلم) سواء ، وزاد : فاستمسك بغَرْزِه حتى تموت ، فو الله إنه لعلى الحق .
ثم نزلت : "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا " [ سورة الفتح : 1 ] ، فأرسل رسول الله إلى عمر فأقرأه إياه . فقال : يا رسول الله ، أو فتح هو ؟ قال : ( نعم ) . فطابت نفسه ورجع .
ثم ندم عمر على ما فرط منه ندماً شديداً ، قال عمر : فعملت لذلك أعمالاً ، مازلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ ، مخافة كلامي الذي تكلمت به ، حتى رجوت أن يكون خيراً .
انحلت أزمة المستضعفين
ولما رجع رسول الله(صلى اله عليه وسلم) إلى المدينة ، واطمأن بها ، انفلت رجل من المسلمين ، ممن كان يعذب في مكة ، وهو أبو بَصِير ، رجل من ثقيف حليف لقريش ، فأرسلوا في طلبه رجلين ، وقالوا للنبي(صلى اله عليه وسلم) : العهد الذي جعلت لنا . فدفعه النبي(صلى اله عليه وسلم) إلى الرجلين ، فخرجا به حتى بلغا ذا الحُلَيْفَة ، فنزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً ، فاستله الآخر فقال : أجل ، والله إنه لجيد ، لقد جَرَّبْتُ به ثم جَرَّبْتُ . فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه ، فأمكنه منه ، فضربه حتى برد .
وفر الآخر حتى أتى المدينة ، فدخل المسجد يعدو ، فقال رسول الله(صلى اله عليه وسلم) حين رآه : ( لقد رأى هذا ذعراً ) ، فلما انتهى إلى النبي(صلى اله عليه وسلم) قال : قُتِل صاحبي ، وإني لمقتول ، فجاء أبو بصير وقال : يا نبي الله ، قد والله أوْفَى الله ذمتك ، قد رددتني إليهم ، ثم أنجاني الله منهم ، قال رسول الله(صلى اله عليه وسلم) : ( ويل أمه ، مِسْعَر حَرْبٍ لو كان له أحد ) ، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم ، فخرج حتى أتى سِيفَ البحر ، وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل ، فلحق بأبي بصير ، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير ، حتى اجتمعت منهم عصابة . فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها ، فقتلوهم وأخذوا أموالهم .
فأرسلت قريش إلى النبي(صلى اله عليه وسلم) تناشده الله والرحم لما أرسل ، فمن أتاه فهو آمن ، فأرسل النبي(صلى اله عليه وسلم) إليهم، فقدموا عليه المدينة.
إسلام أبطال من قريش
وفي سنة 7 من الهجرة بعد هذا الصلح أسلم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة ، ولما حضروا عند النبـي(صلى اله عليه وسلم) قـال : " إن مكـة قد ألقت إلينا أفلاذ كبدها ". أخرجه مسلم (1404)
ولما تطورت الظروف في الجزيرة العربية إلى حد كبير لصالح المسلمين ، أخذت طلائع الفتح الأعظم ونجاح الدعوة الإسلامية تبدو شيئاً فشيئاً ، وبدأت التمهيدات لإقرار حق المسلمين في أداء عبادتهم في المسجد الحرام ، الذي كان قد صد عنه المشركون منذ ستة أعوام .
أُري رسول الله(صلى اله عليه وسلم) في المنام ، وهو بالمدينة ، أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام ، وأخذ مفتاح الكعبة ، وطافوا واعتمروا ، وحلق بعضهم وقصر بعضهم ، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا ، وحسبوا أنهم داخلو مكة عامهم ذلك ، وأخبر أصحابه أنه معتمر فتجهزوا للسفر .
استنفار المسلمين
واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا معه ، فأبطأ كثير من الأعراب ، أما هو فغسل ثيابه ، وركب ناقته القَصْواء ، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم أو نُمَيْلَة الليثي . وخرج منها يوم الإثنين غرة ذي القعدة سنة 6 هـ ، ومعه زوجته أم سلمة ، في ألف وأربعمائة ، ويقال : ألف وخمسمائة ، ولم يخرج معه بسلاح ، إلا سلاح المسافر : السيوف في القُرُب .
المسلمون يتحركون إلى مكة
وتحرك في اتجاه مكة ، فلما كان بذي الحُلَيْفَة قَلَّد الهدي وأشْعَرَه ، وأحرم بالعمرة ، ليأمن الناس من حربه ، وبعث بين يديه عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش ، حتى إذا كان قريباً من عُسْفَان أتاه عينه ، فقال : إني تركت كعب بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش ، وجمعوا لك جموعاً ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ، واستشار النبي(صلى اله عليه وسلم) أصحابه ، وقال : " أترون نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم ؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين ، وإن نجوا يكن عنق قطعها الله ، أم تريدون أن نؤم هذا البيت فمن صدنا عنه قاتلناه ؟ " فقال أبو بكر : الله ورسوله أعلم ، إنما جئنا معتمرين ، ولم نجئ لقتال أحد ، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه ، فقال النبي(صلى اله عليه وسلم) : ( فروحوا ) ، فراحوا . أخرجه البخاري (4179،4178)
) محاولة قريش صد المسلمين عن البيت)
وكانت قريش لما سمعت بخروج النبي(صلى اله عليه وسلم) عقدت مجلساً استشارياً قررت فيه صد المسلمين عن البيت كيفما يمكن ، فبعد أن أعرض رسول الله(صلى اله عليه وسلم) عن الأحابيش ، نقل إليه رجل من بني كعب أن قريشاً نازلة بذي طُوَي ، وأن مائتي فارس في قيادة خالد بن الوليد مرابطة بكُرَاع الغَمِيم في الطريق الرئيسي الذي يوصل إلى مكة . وقد حاول خالد صد المسلمين ، فقام بفرسانه إزاءهم يتراآى الجيشان . ورأى خالد المسلمين في صلاة الظهر يركعون ويسجدون ، فقال : لقد كانوا على غرة ، لو كنا حملنا عليهم لأصبنا منهم ، ثم قرر أن يميل على المسلمين ـ وهم في صلاة العصر ـ ميلة واحدة ، ولكن الله أنزل حكم صلاة الخوف ، ففاتت الفرصة خالداً .
تبديل الطريق ومحاولة الاجتناب ع اللقاء الدامي
وأخذ رسول الله(صلى اله عليه وسلم) طريقاً وَعْرًا بين شعاب ، وسلك بهم ذات اليمين بين ظهري الحَمْض في طريق تخرجه على ثنية المُرَار مهبط الحديبية من أسفل مكة ، وترك الطريق الرئيسي الذي يفضي إلى الحرم ماراً بالتنعيم ، تركه إلى اليسار ، فلما رأى خالد قَتَرَة الجيش الإسلامي قد خالفوا عن طريقه انطلق يركض نذيراً لقريش .
وسار رسول الله(صلى اله عليه وسلم) حتى إذا كان بثنية المرار بركت راحلته ، فقال الناس : حَلْ حَلْ ، فألَحَّتْ ، فقالوا : خلأت القصواء ، فقال النبي(صلى اله عليه وسلم) : " ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل "، ثم قال: "والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها " ، ثم زجرها فوثبت به ، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية ، على ثَمَد قليل الماء ، إنما يتبرضه الناس تبرضاً ، فلم يلبث أن نزحوه . فشكوا إلى رسول الله(صلى اله عليه وسلم) العطش ، فانتزع سهماً من كنانته ، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه ، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا .
بديل يتوسط رسول الله(صلى اله عليه وسلم) وقريش
ولما اطمأن رسول الله(صلى اله عليه وسلم) جاء بديل بن وَرْقَاء الخزاعي في نفر من خزاعة ، وكانت خزاعة عَيْبَة نُصْح لرسول الله(صلى اله عليه وسلم) من أهل تُهَامَة ، فقال : إني تركت كعب ابن لؤي ، نزلوا أعداد مياه الحديبية ، معهم العُوذ المطَافِيل ، وهم مقاتلوك وصادَوك عن البيت . قال رسول الله(صلى اله عليه وسلم) : " إنا لم نجئ لقتال أحد ، ولكنا جئنا معتمرين ، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم ، فإن شاءوا ماددتهم ، ويخلوا بيني وبين الناس ، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا،وإلا فقد جَمُّوا ، وإن هم أبوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذن الله أمره ".
قال بديل : سأبلغهم ما تقول ، فانطلق حتى أتى قريشاً ، فقال : إني قد جئتكم من عند هذا الرجل ، وسمعته يقول قولاً ، فإن شئتم عرضته عليكم .
فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء . وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته . قال : سمعته يقول كذا وكذا ، فبعثت قريش مِكْرَز بن حفص ، فلما رآه رسول الله(صلى اله عليه وسلم) قال : هذا رجل غادر ، فلما جاء وتكلم قال له مثل ما قال لبديل وأصحابه ، فرجع إلى قريش وأخبرهم .
رسل قريش
ثم قال رجل من كنانة ـ اسمه الحُلَيْس بن علقمة : دعوني آته . فقالوا : آته ، فلما أشرف على النبي(صلى اله عليه وسلم) وأصحابه قال رسول الله(صلى اله عليه وسلم) : ( هذا فلان ، وهو من قوم يعظمون البدن ، فابعثوها ) ، فبعثوها له ، واستقبله القوم يلبون ، فلما رأى ذلك . قال : سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت ، فرجع إلى أصحابه ، فقال : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت ، وما أرى أن يصدوا ، وجرى بينه وبين قريش كلام أحفظه .
فقال عروة بن مسعود الثقفي : إن هذا قد عرض عليكم خطة رُشْد فاقبلوها ، ودعوني آته ، فأتاه ، فجعل يكلمه ، فقال له النبي (صلى اله عليه وسلم) نحواً من قوله لبديل . فقال له عروة عند ذلك : أي محمد أرأيت لو استأصلت قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ، وإن تكن الأخرى فوالله إني لا أرى وجوها ، وإني أرى أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك ، قال له أبو بكر : امصص بَظْر اللات ، أنحن نفر عنه ؟ قال : من ذا ؟ قالوا : أبو بكر ، قال : أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت عندي لم أجْزِكَ بها لأجبتك . وجعل يكلم النبي(صلى اله عليه وسلم) ، وكلما كلمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة عند رأس النبي(صلى اله عليه وسلم) ، ومعه السيف وعليه المِغْفَرُ ، فكلما أهوى عروة إلى لحية النبي(صلى اله عليه وسلم) ضرب يده بنعل السيف ، وقال : أخر يدك عن لحية رسول الله(صلى اله عليه وسلم) ، فرفع عروة رأسه ، وقال : من ذا ؟ قالوا : المغيرة بن شعبة ، فقال : أي عُذَر ، أو لستُ أسعي في غَدْرَتِك ؟ وكان المغيرة صَحِبَ قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم ، فقال النبـي(صلى اله عليه وسلم) : ( أما الإسلام فأقبلُ ، وأما المال فلست منـه فـي شيء ) ( وكان المغيرة ابن أخي عروة ) .
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله(صلى اله عليه وسلم) وتعظيمهم له ، فرجع إلى أصحابه ، فقال : أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك ، على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً ، والله إن تَنَخَّمَ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيماً له ، وقد عرض عليكم خطة رُشْدٍ فاقبلوها.البخاري (2581)
هو الذي كف أيديهم عنكم
ولما رأى شباب قريش الطائشون ، الطامحون إلى الحرب ، رغبة زعمائهم في الصلح فكروا في خطة تحول بينهم وبين الصلح ، فقرروا أن يخرجوا ليلاً ، ويتسللوا إلى معسكر المسلمين ، ويحدثوا أحداثاً تشعل نار الحرب ، وفعلاً قد قاموا بتنفيذ هذا القرار ، فقد خرج سبعون أو ثمانون منهم ليلاً فهبطوا من جبل التنعيم ، وحاولوا التسلل إلى معسكر المسلمين ، غير أن محمد بن مسلمة قائد الحرس اعتقلهم جميعاً .
ورغبة في الصلح أطلـق سراحهم النبي(صلى اله عليه وسلم) وعفا عنـهم ، وفي ذلك أنزل الله : "وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ " [ الفتح : 24 ]
عثمان بن عفان سفيراً إلى قريش
وحينئذ أراد رسول الله(صلى اله عليه وسلم) أن يبعث سفيراً يؤكد لدى قريش موقفه وهدفه من هذا السفر ، فدعا عمر بن الخطاب ليرسله إليهم ، فاعتذر قائلاً : يا رسول الله ، ليس لي أحد بمكة من بني عدي بن كعب يغضب لي إن أوذيت ، فأرسل عثمان بن عفان ، فإن عشيرته بها ، وإنه مبلغ ما أردت ، فدعاه ، وأرسله إلى قريش ، وقال : أخبرهم أنا لم نأت لقتال ، وإنما جئنا عماراً ، وادعهم إلى الإسلام ، وأمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين ، ونساء مؤمنات ، فيبشرهم بالفتح ، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة ، حتى لا يستخفي فيها أحد بالإيمان .
فانطلق عثمان حتى مر على قريش بِبَلْدَح ، فقالوا : أين تريد ؟ فقال : بعثني رسول الله(صلى اله عليه وسلم) بكذا وكذا ، قالوا : قد سمعنا ما تقول ، فانفذ لحاجتك ، وقام إليه أبان ابن سعيد بن العاص ، فرحب به ثم أسرج فرسه ، فحمل عثمان على الفرس ، وأجاره وأردفه حتى جاء مكة ، وبلغ الرسالة إلى زعماء قريش ، فلما فرغ عرضوا عليه أن يطوف بالبيت ، فرفض هذا العرض ، وأبى أن يطوف حتى يطوف رسول الله(صلى اله عليه وسلم) .
إشاعة مقتل عثمان وبيعة الرضوان
واحتبسته قريش عندها ـ ولعلهم أرادوا أن يتشاوروا فيما بينهم في الوضع الراهن ، ويبرموا أمرهم ، ثم يردوا عثمان بجواب ما جاء به من الرسالة ـ وطال الاحتباس ، فشاع بين المسلمين أن عثمان قتل ، فقال رسول الله(صلى اله عليه وسلم) لما بلغته الإشاعة : ( لا نبرح حتى نناجز القوم ) ، ثم دعا أصحابه إلى البيعة ، فثاروا إليه يبايعونه على ألا يفروا ، وبايعته جماعة على الموت ، وأول من بايعه أبو سنان الأسدي ، وبايعه سلمة بن الأكوع على الموت ثلاث مرات ، في أول الناس ووسطهم وآخرهم ، وأخذ رسول الله (صلى اله عليه وسلم) بيد نفسه وقال : ( هذه عن عثمان ) . ولما تمت البيعة جاء عثمان فبايعه ، ولم يتخلف عن هذه البيعة إلا رجل من المنافقين يقال له : جَدُّ بن قَيْس .
أخذ رسول الله(صلى اله عليه وسلم) هذه البيعة تحت شجرة ، وكان عمر آخذا بيده ، ومَعْقِل بن يَسَار آخذا بغصن الشجرة يرفعه عن رسول الله (صلى اله عليه وسلم)، وهذه هي بيعة الرضوان التي أنزل الله فيها : " لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ "الآية [ الفتح : 18 ]
إبرام الصلح وبنوده
وعرفت قريش ضيق الموقف ، فأسرعت إلى بعث سُهَيْل بن عمرو لعقد الصلح ، وأكدت له ألا يكون في الصلح إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، لا تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً ، فأتاه سهيل بن عمرو ، فلما رآه عليه السلام قال : ( قد سهل لكم أمركم ) ، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل ، فجاء سهيل فتكلم طويلاً ، ثم اتفقا على قواعد الصلح ، وهي هذه :
1- الرسول(صلى اله عليه وسلم) يرجع من عامه ، فلا يدخل مكة ، وإذا كان العام القابل دخلها المسلمون فأقاموا بها ثلاثاً ، معهم سلاح الراكب ، السيوف في القُرُب ، ولا يتعرض لهم بأي نوع من أنواع التعرض .
2-. وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين ، يأمن فيها الناس،ويكف بعضهم عن بعض .
3- . من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءاً من ذلك الفريق ، فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق .
4- من أتى محمداً من قريش من غير إذن وليه ـ أي هارباً منهم ـ رده عليهم ، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد ـ أي هارباً منه ـ لم يرد عليه .
ثم دعا علياً ليكتب الكتاب ، فأملى عليه : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فقال سهيل : أما الرحمن فو الله لا ندري ما هو ؟ ولكن اكتب : باسمك اللّهم . فأمر النبي(صلى اله عليه وسلم) بذلك . ثم أملى : ( هذا ما صالح عليه محمد رسول الله ) فقال سهيل : لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ، ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله فقال : ( إني رسول الله وإن كذبتموني ) ، وأمر علياً أن يكتب : محمد بن عبد الله ، ويمحو لفظ رسول الله ، فأبي علي أن يمحو هذا اللفظ . فمحاه(صلى اله عليه وسلم) بيده ، ثم تمت كتابة الصحيفة ، ولما تم الصلح دخلت خزاعة في عهد رسول الله(صلى اله عليه وسلم) ـ وكانوا حليف بني هاشم منذ عهد عبد المطلب ، فكان دخولهم في هذا العهد تأكيداً لذلك الحلف القديم ـ ودخلت بنو بكر في عهد قريش .
رد أبي جندل
وبينما الكتاب يكتب إذ جاء أبو جَنْدَل بن سهيل يَرْسُفُ في قيوده ، قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين ، فقال سهيل : هذا أول ما أقاضيك عليه على أن ترده فقال النبي(صلى اله عليه وسلم) : ( إنا لم نقض الكتاب بعد ) .
فقال : فو الله إذا لا أقاضيك على شيء أبداً . فقال النبي(صلى اله عليه وسلم) : ( فأجزه لي ) . قال : ما أنا بمجيزه لك . قال : ( بلى فافعل ) ، قال : ما أنا بفاعل . وقد ضرب سهيل أبا جندل في وجهه ، وأخذ بتلابيبه وجره ، ليرده إلى المشركين ، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته : يا معشر المسلمين ، أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني ؟ فقال رسول الله(صلى اله عليه وسلم) : ( يا أبا جندل ، اصبر واحتسب ، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً ، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً ، وأعطيناهم على ذلك ، وأعطونا عهد الله فلا نغدر بهم ) .
فوثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول : اصبر يا أبا جندل ، فإنما هم المشركون ، وإنما دم أحدهم دم كلب ، ويدني قائم السيف منه ، يقول عمر : رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه ، فضن الرجل بأبيه ، ونفذت القضية.
أخرجه البخاري (2581)
النحر والحلق للحل عن العمرة
ولما فرغ رسول الله(صلى اله عليه وسلم) من قضية الكتاب قال : ( قوموا فانحروا ) ، فو الله ما قام منهم أحد حتى قال ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت : يا رسول الله ، أتحب ذلك ؟ اخرج ، ثم لا تكلم أحداً كلمة حتى تنحر بدنك ، وتدعو حالقك فيحلقك ، فقام فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك ، نحر بُدْنَه ، ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضاً ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً ، وكانوا نحروا البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة ، ونحر رسول الله(صلى اله عليه وسلم) جملاً كان لأبي جهل ، كان في أنفه بُرَةٌ من فضة ، ليغيظ به المشركين ، ودعا رسول الله(صلى اله عليه وسلم) للمحلقين ثلاثاً بالمغفرة وللمقصرين مرة . وفي هذا السفر أنزل الله فدية الأذى لمن حلق رأسه ، بالصيام ، أو الصدقة ، أو النسك ، في شأن كعب بن عُجْرَة .
الاباء عن رد المهاجرات
ثم جاء نسوة مؤمنات فسأل أولياؤهن أن يردهن عليهم بالعهد الذي تم في الحديبية ، فرفض طلبهم هذا ، بدليل أن الكلمة التي كتبت في المعاهدة بصدد هذا البند هي : ( وعلى أنه لا يأتيك منا رجل ، وإن كان على دينك إلا رددته علينا ) ، فلم تدخل النساء في العقد رأساً . وأنزل الله في ذلك : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ "، حتى بلغ " بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ " [ الممتحنة : 10 ] فكان رسول الله"إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا " إلخ [ سورة الفتح : 1 ] ، يمتحنهن بقوله تعالى : " إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا " إلخ [ الممتحنة : 12 ] ، فمن أقرت بهذه الشروط قال لها : ( قد بايعتك ) ، ثم لم يكن يردهن .
وطلق المسلمون زوجاتهم الكافرات بهذا الحكم . فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك ، تزوج بإحداهما معاوية ، وبالأخرى صفوان بن أمية .
ماذا يتمخض عن بنود المعاهدة
هذا هو صلح الحديبية ، ومن سبر أغوار بنوده مع خلفياته لا يشك أنه فتح عظيم للمسلمين ، فقريش لم تكن تعترف بالمسلمين أي اعتراف ، بل كانت تهـدف استئصـال شأفتهم ، وتنتظر أن تشهد يوماً ما نهايتهم ، وكانت تحاول بأقصى قوتها الحيلولة بين الدعوة الإسلامية وبين الناس ، بصفتها ممثلة الزعامة الدينية والصدارة الدنيوية في جزيرة العرب ، ومجرد الجنوح إلى الصلح اعتراف بقوة المسلمين ، وأن قريشاً لا تقدر على مقاومتهم ، ثم البند الثالث يدل بفحواه على أن قريشاً نسيت صدارتها الدنيوية وزعامتها الدينية ، وأنها لاتهمها الآن إلا نفسها ، أما سائر الناس وبقية جزيرة العرب فلو دخلت في الإسلام بأجمعها ، فلا يهم ذلك قريشاً ، ولا تتدخل في ذلك بأي نوع من أنواع التدخل . أليس هذا فشلاً ذريعاً بالنسبة إلى قريش ؟ وفتحا مبيناً بالنسبة إلى المسلمين ؟ إن الحروب الدامية التي جرت بين المسلمين وبين أعدائهم لم تكن أهدافها ـ بالنسبة إلى المسلمين ـ مصادرة الأموال وإبادة الأرواح ، وإفناء الناس ، أو إكراه العدو على اعتناق الإسلام ، وإنما كان الهدف الوحيد الذي يهدفه المسلمون من هذه الحروب هو الحرية الكاملة للناس فـي العقيدة والدين " فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر " [ الكهف : 29 ] . لا يحول بينهم وبين ما يريدون أي قوة من القوات ، وقد حصل هذا الهدف بجميع أجزائه ولوازمه ، وبطريق ربما لا يحصل بمثله في الحروب مع الفتح المبين ، وقد كسب المسلمون لأجل هذه الحرية نجاحاً كبيراً في الدعوة ، فبينما كان عدد المسلمين لا يزيد على ثلاثة آلاف قبل الهدنة صار عدد الجيش الإسلامي في سنتين عند فتح مكة عشرة آلاف .
أما البند الثاني فهو جزء ثان لهذا الفتح المبين ، فالمسلمون لم يكونوا بادئين بالحروب ، وإنما بدأتها قريش ، يقول الله تعالى : " وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ " [ التوبة : 13 ] ، أما المسلمون فلم يكن المقصود من دورياتهم العسكرية إلا أن تفيق قريش عن غطرستها وصدها عن سبيل الله ، وتعمل معهم بالمساواة ، كل من الفريقين يعمل على شاكلته ، فالعقد بوضع الحرب عشر سنين حد لهذه الغطرسة والصد ، ودليل على فشل من بدأ بالحرب وعلى ضعفه وانهياره .
أما البند الأول فهو حد لصد قريش عن المسجد الحرام ، فهو أيضاً فشل لقريش ، وليس فيه ما يشفي قريشاً سوي أنها نجحت في الصد لذلك العام الواحد فقط .
أعطت قريش هذه الخلال الثلاث للمسلمين ، وحصلت بإزائها خلة واحدة فقط ، وهي ما في البند الرابــع ، ولـكن تلك الخلة تافهة جداً ، ليس فيها شيء يضر بالمسلمين ، فمعلوم أن المسلم ما دام مسلماً لا يفر عن الله ورسوله ، وعن مدينة الإسلام ، ولا يفر إلا إذا ارتد عن الإسلام ظاهراً أو باطناً ، فإذا ارتد فلا حاجة إليه للمسلمين ، وانفصاله من المجتمع الإسلامي خير من بقائه فيه ، وهذا الذي أشار إليه رسول الله(صلى اله عليه وسلم) بقوله : ( إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ) . وأما من أسلم من أهل مكة فهو وإن لم يبق للجوئه إلى المدينة سبيل لكن أرض الله واسعة ، ألم تكن الحبشة واسعة للمسلمين حينما لم يكن يعرف أهل المدينة عن الإسلام شيئاً ؟ وهذا الذي أشار إليه النبي بقوله : ( ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً ) .
والأخذ بمثل هذا الاحتفاظ ، وإن كان مظهر الاعتزاز لقريش ، لكنه في الحقيقة ينبئ عن شدة انزعاج قريش وهلعهم وخَوَرِهم ، وعن شدة خوفهم على كيانهم الوثني ، وكأنهم كانوا قد أحسوا أن كيانهم اليوم على شفا جُرُف هار لا بد له من الأخذ بمثل هذا الاحتفاظ . وما سمح به النبي(صلى اله عليه وسلم) من أنه لا يسترد من فرّ إلى قريش من المسلمين ، فليس هذا إلا دليلاً على أنه يعتمد على تثبيت كيانه وقوته كمال الاعتماد ، ولا يخاف عليه من مثل هذا الشرط .
حزن المسلمين ومناقشة عمر مع النبي(صلى اله عليه وسلم)
هذه هي حقيقة بنود هذا الصلح ، لكن هناك ظاهرتان عمت لأجلهما المسلمين كآبة وحزن شديد .
الأولى : أنه كان قد أخبرهم أنا سنأتي البيت فنطوف به، فما له يرجع ولم يطف به ؟
الثانية : أنه رسول الله(صلى اله عليه وسلم) وعلى الحق ، والله وعد إظهار دينه ، فما له قبل ضغط قريش ، وأعطي الدَّنِيَّةَ في الصلح ؟
كانت هاتان الظاهرتان مثار الريب والشكوك والوساوس والظنون ، وصارت مشاعر المسلمين لأجلهما جريحة ، بحيث غلب الهم والحزن على التفكير في عواقب بنود الصلح . ولعل أعظمهم حزناً كان عمر بن الخطاب ، فقد جاء إلى النبي(صلى اله عليه وسلم) وقال : يا رسول الله ، ألسنا على حق وهم على باطل ؟ قـال : ( بلى ) . قـال : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال : ( بلى ). قال : ففيم نعطي الدنية في ديننا ، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؟ قال : ( يا ابن الخطاب ، إني رسول الله ولست أعصيه ، وهو ناصري ولن يضيعني أبداً ) . قال : أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال : ( بلى ، فأخبرتك أنا نأتيه العام ؟ ) قال : لا . قال : ( فإنك آتيه ومطوف به ) .
ثم انطلق عمر متغيظاً فأتى أبا بكر ، فقال له كما قال لرسول الله(صلى اله عليه وسلم) ، ورد عليه أبو بكر ، كما رد عليه رسول الله(صلى اله عليه وسلم) سواء ، وزاد : فاستمسك بغَرْزِه حتى تموت ، فو الله إنه لعلى الحق .
ثم نزلت : "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا " [ سورة الفتح : 1 ] ، فأرسل رسول الله إلى عمر فأقرأه إياه . فقال : يا رسول الله ، أو فتح هو ؟ قال : ( نعم ) . فطابت نفسه ورجع .
ثم ندم عمر على ما فرط منه ندماً شديداً ، قال عمر : فعملت لذلك أعمالاً ، مازلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ ، مخافة كلامي الذي تكلمت به ، حتى رجوت أن يكون خيراً .
انحلت أزمة المستضعفين
ولما رجع رسول الله(صلى اله عليه وسلم) إلى المدينة ، واطمأن بها ، انفلت رجل من المسلمين ، ممن كان يعذب في مكة ، وهو أبو بَصِير ، رجل من ثقيف حليف لقريش ، فأرسلوا في طلبه رجلين ، وقالوا للنبي(صلى اله عليه وسلم) : العهد الذي جعلت لنا . فدفعه النبي(صلى اله عليه وسلم) إلى الرجلين ، فخرجا به حتى بلغا ذا الحُلَيْفَة ، فنزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً ، فاستله الآخر فقال : أجل ، والله إنه لجيد ، لقد جَرَّبْتُ به ثم جَرَّبْتُ . فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه ، فأمكنه منه ، فضربه حتى برد .
وفر الآخر حتى أتى المدينة ، فدخل المسجد يعدو ، فقال رسول الله(صلى اله عليه وسلم) حين رآه : ( لقد رأى هذا ذعراً ) ، فلما انتهى إلى النبي(صلى اله عليه وسلم) قال : قُتِل صاحبي ، وإني لمقتول ، فجاء أبو بصير وقال : يا نبي الله ، قد والله أوْفَى الله ذمتك ، قد رددتني إليهم ، ثم أنجاني الله منهم ، قال رسول الله(صلى اله عليه وسلم) : ( ويل أمه ، مِسْعَر حَرْبٍ لو كان له أحد ) ، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم ، فخرج حتى أتى سِيفَ البحر ، وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل ، فلحق بأبي بصير ، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير ، حتى اجتمعت منهم عصابة . فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها ، فقتلوهم وأخذوا أموالهم .
فأرسلت قريش إلى النبي(صلى اله عليه وسلم) تناشده الله والرحم لما أرسل ، فمن أتاه فهو آمن ، فأرسل النبي(صلى اله عليه وسلم) إليهم، فقدموا عليه المدينة.
إسلام أبطال من قريش
وفي سنة 7 من الهجرة بعد هذا الصلح أسلم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة ، ولما حضروا عند النبـي(صلى اله عليه وسلم) قـال : " إن مكـة قد ألقت إلينا أفلاذ كبدها ". أخرجه مسلم (1404)