( رواهـــــــــــــــــــي أون لايـــــــــــــــــــــــــن ) ROAHY AUN LAUN

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
( رواهـــــــــــــــــــي أون لايـــــــــــــــــــــــــن ) ROAHY AUN LAUN

الهم صلي على سبدنا محمد واله وصحبة اجمعين


    غزوة أحد_قبسات من الرحيق المختوم تكمله

    ابو عبد الهادي
    ابو عبد الهادي
    Admin


    عدد المساهمات : 168
    تاريخ التسجيل : 06/12/2009

    غزوة أحد_قبسات من الرحيق المختوم تكمله Empty غزوة أحد_قبسات من الرحيق المختوم تكمله

    مُساهمة من طرف ابو عبد الهادي الأربعاء ديسمبر 16, 2009 11:03 pm

    وعندما وصل إلى مقام يقال له ‏:‏ ‏[ ‏الشيخان‏ ]‏ استعرض جيشه ، فرد من استصغره ولم يره مطيقاً للقتال ، وكان منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب وأسامة بن زيد ، وأسيد بن ظُهَير ، وزيد بن ثابت ، وزيد بن أرقم ، وعَرَابَة بن أوْس ، وعمرو بن حزم ، وأبو سعيد الخدري ، وزيد بن حارثة الأنصاري ، وسعد بن حَبَّة ، ويذكر في هؤلاء البراء بن عازب ، لكن حديثه في البخاري يدل على شهوده القتال ذلك اليوم ‏.‏

    وأجاز رافع بن خَدِيج ، وسَمُرَة بن جُنْدَب على صغر سنهما ، وذلك أن رافع بن خديج كان ماهراً في رماية النبل فأجازه ، فقال سمرة‏ :‏ أنا أقوي من رافع ، أنا أصرعه ، فلما أخبر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بذلك أمرهما أن يتصارعا أمامه فتصارعا ، فصرع سمرة رافعاً ، فأجازه أيضاً‏ .‏



    المبيت بين أحد والمدينة



    وفي هذا المكان أدركهم المساء ، فصلى المغرب ، ثم صلى العشاء ، وبات هنالك ، واختار خمسين رجلاً لحراسة المعسكر يتجولون حوله ، وكان قائدهم محمد بن مسلمة الأنصاري ، بطل سرية كعب بن الأشرف ، وتولي ذَكْوَان بن عبد قيس حراسة النبي(صلى الله عليه وسلم) خاصة ‏.‏




    تمرد عبد الله بن أبي وأصحابه


    وقبل طلوع الفجر بقليل أدلج ، حتى إذا كان بالشَّوْط صلى الفجر ، وكان بمقربة جداً من العدو ، فقد كان يراهم ويرونه ، وهناك تمرد عبد الله بن أبي المنافق ، فانسحب بنحو ثلث العسكر ـ ثلاثمائة مقاتل ـ قائلاً ‏:‏ ما ندري علام نقتل أنفسنا ‏؟‏ ومتظاهراً بالاحتجاج بأن الرسول(صلى الله عليه وسلم) ترك رأيه وأطاع غيره ‏.‏

    ولا شك أن سبب هذا الانعزال لم يكن هو ما أبداه هذا المنافق من رفض رسول الله(صلى الله عليه وسلم) رأيه ، وإلا لم يكن لسيره مع الجيش النبوي إلى هذا المكان معنى‏ .‏ بل لو كان هذا هو السبب لا نعزل عن الجيش منذ بداية سيره ، بل كان هدفه الرئيسي من هذا التمرد ـ في ذلك الظرف الدقيق ـ أن يحدث البلبلة والاضطراب في جيش المسلمين على مرأى ومسمع من عدوهم ، حتى ينحاز عامة الجيش عن النبي(صلى الله عليه وسلم) ، وتنهار معنويات من يبقي معه ، بينما يتشجع العدو ، وتعلو همته لرؤية هذا المنظر ، فيكون ذلك أسرع إلى القضاء على النبي(صلى الله عليه وسلم) وأصحابه المخلصين ، ويصحو بعد ذلك الجو لعودة الرياسة إلى هذا المنافق وأصحابه‏ .‏

    وكاد المنافق ينجح في تحقيق بعض ما كان يهدف إليه ، فقد همت طائفتان ـ بنو حارثة من الأوس ، وبنو سلمة من الخزرج ـ أن تفشلا ، ولكن الله تولاهما ، فثبتتا بعدما سرى فيهما الاضطراب ، وهمتا بالرجوع والانسحاب ، وعنهما يقول الله تعالى ‏:‏ ‏" ‏إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏ "‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 122‏] ‏‏.‏

    وحاول عبد الله بن حَرَام ـ والد جابر بن عبد الله ـ تذكير هؤلاء المنافقين بواجبهم في هذا الظرف الدقيق ، فتبعهم وهو يوبخهم ويحضهم على الرجوع ، ويقول ‏:‏ تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ، قالوا ‏:‏ لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع ، فرجع عنهم عبد الله بن حرام قائلاً ‏:‏ أبعدكم الله أعداء الله ، فسيغني الله عنكم نبيه ‏.‏

    وفي هؤلاء المنافقين يقول الله تعالى ‏:‏ ‏" ‏وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ‏ "‏[‏آل عمران‏:‏ 167‏]‏‏



    بقية الجيش الإسلامي إلى أحد


    وبعد هذا التمرد والانسحاب قام النبي(صلى الله عليه وسلم) ببقية الجيش ـ وهم سبعمائة مقاتل ـ ليواصل سيره نحو العدو، وكان معسكر المشركين يحول بينه وبين أحد في مناطق كثيرة ، فقال ‏:‏ ‏" من رجل يخرج بنا على القوم من كَثَبٍ ـ أي من قريب ـ من طريق لا يمر بنا عليهم ‏؟‏‏ "‏‏.‏

    فقال أبو خَيثَمةَ‏ :‏ أنا يا رسول الله ، ثم اختار طريقاً قصيراً إلى أحد يمر بحَرَّةِ بني حارثة وبمزارعهم ، تاركاً جيش المشركين إلى الغرب ‏.‏

    ومر الجيش في هذا الطريق بحائط مِرْبَع بن قَيظِي ـ وكان منافقاً ضرير البصر ـ فلما أحس بالجيش قام يحثو التراب في وجوه المسلمين ، ويقول ‏:‏ لا أحل لك أن تدخل حائطي إن كنت رسول الله‏ .‏ فابتدره القوم ليقتلوه ، فقال(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏"‏ لا تقتلوه ، فهذا الأعْمَى أعمى القلب أعمى البصر "‏‏.‏

    ونفذ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حتى نزل الشعب من جبل أحد في عدوة الوادي ، فعسكر بجيشه مستقبلاً المدينة ، وجاعلا ظهره إلى هضاب جبل أحد ، وعلى هذا صار جيش العدو فاصلاً بين المسلمين وبين المدينة ‏.‏



    خطة الدفاع


    وهناك عبأ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) جيشه ، وهيأهم صفوفاً للقتال ، فاختار منهم فصيلة من الرماة الماهرين ، قوامها خمسون مقاتلاً ، وأعطي قيادتها لعبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري الأوسي البدري ، وأمرهم بالتمركز على جبل يقع على الضفة الشمالية من وادي قناة ـ وعرف فيما بعد بجبل الرماة ـ جنوب شرق معسكر المسلمين ، على بعد حوالى مائة وخمسين متراً من مقر الجيش الإسلامي ‏.‏

    والهدف من ذلك هو ما أبداه رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في كلماته التي ألقاها إلى هؤلاء الرماة ، فقد قال لقائدهم ‏:‏ "‏انضح الخيل عنا بالنبل ، لا يأتونا من خلفنا ، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك ، لا نؤتين من قبلك "‏ وقال للرماة ‏:‏ "‏احموا ظهورنا ، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا ، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا‏ "‏، وفي رواية البخاري أنه قال ‏:‏ "‏إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم ، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم‏ "‏.‏

    بتعين هذه الفصيلة في الجبل مع هذه الأوامر العسكرية الشديدة سد رسول الله(صلى الله عليه وسلم) الثلمة الوحيدة التي كان يمكن لفرسان المشركين أن يتسللوا من ورائها إلى صفوف المسلمين ، ويقوموا بحركات الالتفاف وعملية التطويق ‏.‏

    أما بقية الجيش فجعل على الميمنة المنذر بن عمرو ، وجعل على الميسرة الزبير بن العوام ، يسانده المقداد بن الأسود ، وكان إلى الزبير مهمة الصمود في وجه فرسان خالد بن الوليد ، وجعل في مقدمة الصفوف نخبة ممتازة من شجعان المسلمين ورجالاتهم المشهورين بالنجدة والبسالة ، والذين يوزنون بالآلاف ‏.‏

    ولقد كانت خطة حكيمة ودقيقة جداً ، تتجلي فيها عبقرية قيادة النبي(صلى الله عليه وسلم) العسكرية ، وأنه لا يمكن لأي قائد مهما تقدمت كفاءته أن يضع خطة أدق وأحكم من هذا ، فقد احتل أفضل موضع من ميدان المعركة ، مع أنه نزل فيه بعد العدو ، فإنه حمي ظهره ويمينه بارتفاعات الجبل ، وحمي ميسرته وظهره ـ حين يحتدم القتال ـ بسد الثلمة الوحيدة التي كانت توجد في جانب الجيش الإسلامي ، واختار لمعسكره موضعاً مرتفعاً يحتمي به ـ إذا نزلت الهزيمة بالمسلمين ـ ولا يلتجئ إلى الفرار ، حتى يتعرض للوقوع في قبضة الأعداء المطاردين وأسرهم ، ويلحق مع ذلك خسائر فادحة بأعدائه إن أرادوا احتلال معسكره وتقدموا إليه ، وألجأ أعداءه إلى قبول موضع منخفض يصعب عليهم جداً أن يحصلوا على شيء من فوائد الفتح إن كانت الغلبة لهم ، ويصعب عليهم الإفلات من المسلمين المطاردين إن كانت الغلبة للمسلمين ، كما أنه عوض النقص العددي في رجاله باختيار نخبة ممتازة من أصحابه الشجعان البارزين ‏.‏



    وهكذا تمت تعبئة الجيش النبوي صباح يوم السبت السابع من شهر شوال سنة 3هـ‏

    الرسول(صلى الله عليه وسلم) ينفث روح البسالة في الجيش


    ونهى الرسول(صلى الله عليه وسلم) الناس عن الأخذ في القتال حتى يأمرهم ، وظاهر بين درعين ، وحرض أصحابه على القتال ، وحضهم على المصابرة والجلاد عند اللقاء ، وأخذ ينفث روح الحماسة والبسالة في أصحابه حتى جرد سيفاً باتراً ونادى أصحابه ‏:‏ "‏ من يأخذ هذا السيف بحقه‏ ؟ "‏ ، فقام إليه رجال ليأخذوه ـ منهم على بن أبي طالب ، والزبير بن العوام ، وعمر بن الخطاب ـ حتى قام إليه أبو دُجَانة سِمَاك بن خَرَشَة ، فقال‏ :‏ وما حقه يا رسول الله ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏" ‏أن تضرب به وجوه العدو حتى ينحني "‏‏ .‏ قال‏:‏ أنا آخذه بحقه يا رسول الله ، فأعطاه إياه ‏.‏

    وكان أبو دجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب ، وكانت له عصابة حمراء إذا اعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل حتى الموت ‏.‏

    فلما أخذ السيف عصب رأسه بتلك العصابة ، وجعل يتبختر بين الصفين ، وحينئذ قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏"‏إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن‏ "‏‏.‏

    تعبئة الجيش المكي


    أما المشركون فعبأوا جيشهم حسب نظام الصفوف ، فكانت القيادة العامة إلى أبي سفيان صخر بن حرب الذي تمركز في قلب الجيش، وجعلوا على الميمنة خالد بن الوليد ـ وكان إذ ذاك مشركاً ـ وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل ، وعلى المشاة صفوان ابن أمية ، وعلى رماة النبل عبد الله بن أبي ربيعة ‏.‏

    أما اللواء فكان إلى مفرزة من بني عبد الدار ، وقد كان ذلك منصبهم منذ أن اقتسمت بنو عبد مناف المناصب التي ورثوها من قصي بن كلاب ، وكان لا يمكن لأحد أن ينازعهم في ذلك ، تقيداً بالتقاليد التي ورثوها كابراً عن كابر ، بيد أن القائد العام ـ أبا سفيان ـ ذكرهم بما أصاب قريشاً يوم بدر حين أسر حامل لوائهم النضر بن الحارث ، وقال لهم ـ ليستفز غضبهم ويثير حميتهم ‏:‏ يا بني عبد الدار ، قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم ، وإنما يؤتي الناس من قبل راياتهم ، وإذا زالت زالوا ، فإما أن تكفونا لواءنا ، وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه‏ .‏

    ونجح أبو سفيان في هدفه ، فقد غضب بنو عبد الدار لقول أبي سفيان أشد الغضب ، وهموا به وتواعدوه وقالوا له ‏:‏ نحن نسلم إليك لواءنا ‏؟‏ ستعلم غداً إذا التقينا كيف نصنع‏ .‏

    وقد ثبتوا عند احتدام المعركة حتى أبيدوا عن بكرة أبيهم ‏.‏

    مناورات سياسية من قبل قريش


    وقبيل نشوب المعركة حاولت قريش إيقاع الفرقة والنزاع داخل صفوف المسلمين ‏.‏ فقد أرسل أبو سفيان إلى الأنصار يقول لهم ‏:‏ خلوا بيننا وبين ابن عمنا فننصرف عنكم ، فلا حاجة لنا إلى قتالكم ‏.‏

    ولكن أين هذه المحاولة أمام الإيمان الذي لا تقوم له الجبال ، فقد رد عليه الأنصار رداً عنيفاً ، وأسمعوه ما يكره ‏.‏

    واقتربت ساعة الصفر ، وتدانت الفئتان ، فقامت قريش بمحاولة أخرى لنفس الغرض ، فقد خرج إلى الأنصار عميل خائن يسمي أبا عامر الفاسق ـ واسمه عبد عمرو ابن صَيفِي ، وكان يسمي الراهب ، فسماه رسول الله(صلى الله عليه وسلم) الفاسق ، وكان رأس الأوس في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام شَرِق به ، وجاهر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بالعداوة ، فخرج من المدينة وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ويحضهم على قتاله ، ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه ، ومالوا معه ـ فكان أول من خرج إلى المسلمين في الأحابيش وعُبْدَان أهل مكة ‏.‏

    فناد قومه وتعرف عليهم ، وقال ‏:‏ يا معشر الأوس ، أنا أبو عامر‏ .‏ فقالوا ‏:‏ لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق ‏.‏ فقال‏ :‏ لقد أصاب قومي بعدي شر ‏.‏ ( ولما بدأ القتال قاتلهم قتالاً شديداً وراضخهم بالحجارة‏ ) .‏

    وهكذا فشلت قريش في محاولتها الثانية للتفريق بين صفوف أهل الإيمان ‏.‏ ويدل عملهم هذا على ما كان يسيطر عليهم من خوف المسلمين وهيبتهم ، مع كثرتهم وتفوقهم في العدد والعدة‏ .‏

    جهود نسوة قريش في التحميس


    وقامت نسوة قريش بنصيبهن من المشاركة في المعركة ، تقودهن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان ، فكن يتجولن في الصفوف ، ويضربن بالدفوف ، يستنهضن الرجال ، ويحرضن على القتال ، ويثرن حفائظ الأبطال ، ويحركن مشاعر أهل الطعان والضراب والنضال ، فتارة يخاطبن أهل اللواء فيقلن ‏:‏

    وَيْها بني عبد الدار

    ويها حُمَاة الأدبار

    ضـرباً بكـل بتـــار


    وتارة يأززن قومهن على القتال وينشدن‏ :‏

    إن تُـقْبلُـوا نُعَانـِــق
    أو تُـدْبِـرُوا نُفـَــارِق

    ونَفــْرِشُ النمــارق
    فــراق غيـر وَامـِق




    أول وقود المعركة


    وتقارب الجمعان وتدانت الفئتان ، وآنت مرحلة القتال ، وكان أول وقود المعركة حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة العبدري ، وكان من أشجع فرسان قريش ، يسميه المسلمون كبش الكتيبة ‏.‏

    خرج وهو راكب على جمل يدعو إلى المبارزة ، فأحجم عنه الناس لفرط شجاعته ، ولكن تقدم إليه الزبير ولم يمهله ، بل وثب إليه وثبة الليث حتى صار معه على جمله ، ثم اقتحم به الأرض فألقاه عنه وذبحه بسيفه ‏.‏

    ورأى النبي(صلى الله عليه وسلم) هذا الصراع الرائع فكبر ، وكبر المسلمون وأثنى على الزبير ، وقال في حقه ‏:‏ ‏" ‏إن لكل نبي حوارياً ، وحواريي الزبير‏ "‏ ‏.‏



    ثقل المعركة حول اللواء وإبادة حملته


    ثم اندلعت نيران المعركة ، واشتد القتال بين الفريقين في كل نقطة من نقاط الميدان ، وكان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين ، فقد تعاقب بنو عبد الدار لحمل اللواء بعد قتل قائدهم طلحة بن أبي طلحة ، فحمله أخوه أبو شيبة عثمان بن أبي طلحة ، وتقدم للقتال وهو يقول ‏:‏

    إنَّ على أهْل اللوَاء حقــاً

    أن تُخْضَبَ الصَّعْدَة أو تَنْدَقَّا


    فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب فضربه على عاتقه ضربة بترت يده مع كتفه ، حتى وصلت إلى سرته ، فبانت رئته ‏.‏

    ثم رفع اللواء أبو سعد بن أبي طلحة ، فرماه سعد بن أبي وقاص بسهم أصاب حنجرته ، فأُدْلِعَ لسانُهُ ومات لحينه ‏.‏ وقيل ‏:‏ بل خرج أبو سعد يدعو إلى البراز ، فتقدم إليه على بن أبي طالب ، فاختلفا ضربتين ، فضربه علي فقتله ‏.‏

    ثم رفع اللواء مُسَافع بن طلحة بن أبي طلحة ، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفْلَح بسهم فقتله ، فحمل اللواء بعده أخوه كِلاَب بن طلحة بن أبي طلحة ، فانقض عليه الزبير بن العوام وقاتله حتى قتله ، ثم حمل اللواء أخوهما الجُلاَس بن طلحة بن أبي طلحة ، فطعنه طلحة بن عبيد الله طعنة قضت على حياته ‏.‏

    وقيل‏ :‏ بل رماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح بسهم فقضي عليه ‏.‏

    هؤلاء ستة نفر من بيت واحد ، بيت أبي طلحة عبد الله بن عثمان بن عبد الدار ، قتلوا جميعاً حول لواء المشركين ، ثم حمله من بني عبد الدار أرطاة بن شُرَحْبِيل ، فقتله على بن أبي طالب ، وقيل‏ :‏ حمزة بن عبد المطلب ، ثم حمله شُرَيح بن قارظ فقتله قُزْمَان ـ وكان منافقاً قاتل مع المسلمين حمية ، لا عن الإسلام ـ ثم حمله أبو زيد عمرو بن عبد مناف العبدري ، فقتله قزمان أيضاً ، ثم حمله ولد لشرحبيل بن هاشم العبدري فقتله قزمان أيضاً ‏.‏

    فهؤلاء عشرة من بني عبد الدار ـ من حمله اللواء ـ أبيدوا عن آخرهم ، ولم يبق منهم أحد يحمل اللواء ‏.‏ فتقدم غلام لـهم حبشي ـ اسمه صُوَاب ـ فحمل اللواء ، وأبدى من صنوف الشجاعة والثبات ما فاق به مواليه من حملة اللواء الذين قتلوا قبله ، فقد قاتل حتى قطعت يداه ، فبرك على اللواء بصدره وعنقه ، لئلا يسقط ، حتى قتل وهو يقول ‏:‏ اللّهم هل أعزرت ‏؟‏ يعني هل أعذرت ‏؟ ‏‏.‏

    وبعد أن قتل هذا الغلام ـ صُواب ـ سقط اللواء على الأرض ، ولم يبق أحد يحمله ، فبقي ساقطاً ‏.

    القتال في بقية النقاط


    وبينما كان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين كان القتال المرير يجري في سائر نقاط المعركة ، وكانت روح الإيمان قد سادت صفوف المسلمين ، فانطلقوا خلال جنود الشرك انطلاق الفيضان تتقطع أمامه السدود ، وهم يقولون ‏:‏ ‏[‏ أمت ، أمت‏ ]‏ كان ذلك شعاراً لهم يوم أحد ‏.‏

    أقبل أبو دُجَانة معلماً بعصابته الحمراء ، آخذاً بسيف رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، مصمماً على أداء حقه ، فقاتل حتى أمعن في الناس ، وجعل لا يلقي مشركاً إلا قتله ، وأخذ يهد صفوف المشركين هدّا ‏.

    ‏قال الزبير بن العوام ‏:‏ وجدت في نفسي حين سألت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) السيف فمنعنيه ، وأعطاه أبا دجانة ، وقلت ـ أي في نفسي ‏:‏ أنا ابن صفية عمته ، ومن قريش ، وقد قمت إليه ، فسألته إياه قبله فآتاه إياه وتركني ، والله لأنظرن ما يصنع ‏؟‏ فاتبعته ، فأخرج عصابة له حمراء فعصب بها رأسه ، فقالت الأنصار ‏:‏ أخرج أبو دجانة عصابة الموت ، فخرج وهو يقول ‏:‏
    أنا الذي عاهـدني خليلي ** ونحـن بالسَّفْح لدى النَّخِيل
    ألا أقوم الدَّهْرَ في الكَيول ** أضْرِبْ بسَيف الله والرسول

    فجعل لا يلقى أحداً إلا قتله ، وكان في المشركين رجل لا يدع لنا جريحاً إلا ذَفَّفَ عليه ، فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه ، فدعوت الله أن يجمع بينهما فالتقيا ، فاختلفا ضربتين ، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته ، فَعَضَّتْ بسيفه ، فضربه أبو دجانة فقتله ‏.‏

    ثم أمعن أبو دجانة في هدِّ الصفوف ، حتى خلص إلى قائدة نسوة قريش ، وهو لا يدري بها‏ .‏

    قال أبو دجانة‏ : ‏رأيت إنساناً يخْمِش الناس خمشاً شديداً ، فصمدت له ، فلما حملت عليه السيف ولَوْل َ، فإذا امرأة ، فأكرمت سيف رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أن أضرب به امرأة ‏.‏

    وكانت تلك المرأة هي هند بنت عتبة‏ .‏ قال الزبير بن العوام‏ :‏ رأيت أبا دجانة قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة ، ثم عدل السيف عنها ، فقلت ‏: ‏الله ورسوله أعلم ‏.‏

    وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتال الليوث المهتاجة ، فقد اندفع إلى قلب جيش المشركين يغامر مغامرة منقطعة النظير ، ينكشف عنه الأبطال كما تتطاير الأوراق أمام الرياح الهوجاء ، فبالإضافة إلى مشاركته الفعالة في إبادة حاملي لواء المشركين فعل الأفاعيل بأبطالهم الآخرين ، حتى صرع وهو في مقدمة المبرزين ، ولكن لا كما تصـرع الأبطال وجهاً لوجـه في ميدان القتـال ، وإنما كمـا يغتال الكرام في حلك الظـلام‏ .‏







    مصرع أسد الله حمزة بن عبد المطلب


    يقول قاتل حمزة وحْشِي بن حرب‏ :‏ كنت غلاماً لجبير بن مُطْعِم ، وكان عمه طُعَيمَة بن عدي قد أصيب يوم بدر ، فلما سارت قريش إلى أحد قال لي جبير ‏:‏ إنك إن قتلت حمزة عم محمد بعمي فأنت عتيق ‏.‏

    قال ‏:‏ فخرجت مع الناس ـ وكنت رجلاً حبشياً أقذف بالحربة قذف الحبشة ، قلما أخطئ بها شيئاً ـ فلما التقي الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره ، حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأوْرَق ، يهُدُّ الناس هدّا ما يقوم له شيء ‏.‏ فوالله إني لأتهيأ له أريده ، فأستتر منه بشجرة أو حجر ليدنو مني إذ تقدمني إليه سِبَاع بن عبد العزي ، فلما رآه حمزة قال له ‏:‏ هلم إلى يابن مُقَطِّعَة البُظُور ـ وكانت أمه ختانة ـ قال ‏:‏ فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه ‏.‏

    قال ‏:‏ وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه ، فوقعت في ثُنَّتِه ـ أحشائه ـ حتى خرجت من بين رجليه ، وذهب لينوء نحوي فَغُلِبَ ، وتركته وإياها حتى مات ، ثم أتيته فأخذت حربتي ، ثم رجعت إلى العسكر فقعدت فيه ، ولم يكن لي بغيره حاجة ، وإنما قتلته لأعتق ، فلما قدمت مكة عتقت ‏.‏





    السيطرة على الموقف


    وبرغم هذه الخسارة الفادحة التي لحقت المسلمين بقتل أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب ، ظل المسلمون مسيطرين على الموقف كله ‏.‏

    فقد قاتل يومئذ أبو بكر ، وعمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، والزبير بن العوام ، ومصعب بن عمير ، وطلحة بن عبيد الله ، وعبد الله بن جحش ، وسعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، وسعد بن الربيع ، وأنس بن النضر وأمثالهم قتالاً فَلَّ عزائم المشركين ، وفتَّ في أعضادهم‏ .‏





    من أحضان المرأة إلى مقارعة السيوف والدرقة


    وكان من الأبطال المغامرين يومئذ حَنْظَلة الغَسِيل ـ وهو حنظلة بن أبي عامر ، وأبو عامر هذا هو الراهب الذي سمي بالفاسق ، والذي مضي ذكره قريباً ـ كان حنظلة حديث عهد بالعُرْس ، فلما سمع هواتف الحرب وهو على امرأته انخلع من أحضانها ، وقام من فوره إلى الجهاد ، فلما التقى بجيش المشركين في ساحة القتال أخذ يشق الصفوف حتى خلص إلى قائد المشركين أبي سفيان صخر بن حرب ، وكاد يقضي عليه لولا أن أتاح الله له الشهادة ، فقد شد على أبي سفيان ، فلما استعلاه وتمكن منه رآه شداد بن الأسود فضربه حتى قتله‏ .‏





    نصيب فصيلة الرماة في المعركة


    وكانت للفصيلة التي عينها الرسول(صلى الله عليه وسلم) على جبل الرماة يد بيضاء في إدارة دفة القتال لصالح الجيش الإسلامي ، فقد هجم فرسان مكة بقيادة خالد بن الوليد يسانده أبو عامر الفاسق ثلاث مرات ، ليحطموا جناح الجيش الإسلامي الأيسر ، حتى يتسربوا إلى ظهور المسلمين ، فيحدثوا البلبلة والارتباك في صفوفهم وينزلوا عليهم هزيمة ساحقة ، ولكن هؤلاء الرماة رشقوهم بالنبل حتى فشلت هجماتهم الثلاث‏ .‏





    الهزيمة تنزل بالمشركين


    هكذا دارت رحى الحرب الزَّبُون ، وظل الجيش الإسلامي الصغير مسيطرًا على الموقف كله حتى خارت عزائم أبطال المشركين ، وأخذت صفوفهم تتبدد عن اليمين والشمال والأمام والخلف ، كأن ثلاثة آلاف مشرك يواجهون ثلاثين ألف مسلم لا بضع مئات قلائل، وظهر المسلمون في أعلى صور الشجاعة واليقين ‏.‏

    وبعد أن بذلت قريش أقصى جهدها لسد هجوم المسلمين أحست بالعجز والخور ، وانكسرت همتها ـ حتى لم يجترئ أحد منها أن يدنو من لوائها الذي سقط بعد مقتل صُؤاب فيحمله ليدور حوله القتال ـ فأخذت في الانسحاب ، ولجأت إلى الفرار ، ونسيت ما كانت تتحدث به في نفوسها من أخذ الثأر والوتر والانتقام ، وإعادة العز والمجد والوقار ‏.‏

    قال ابن إسحاق‏ :‏ ثم أنزل الله نصره على المسلمين ، وصدقهم وعده ، فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن المعسكر ، وكانت الهزيمة لاشك فيها ‏.‏

    روى عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه قال‏ :‏ والله لقد رأيتني أنظر إلى خَدَم ـ سوق ـ هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب ، ما دون أخذهن قليل ولا كثير ‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ .‏

    وفي حديث البراء بن عازب عند البخاري في الصحيح ‏:‏ فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل ، يرفعن سوقهن قد بدت خلاخيلهن ‏.‏ وتبع المسلمون المشركين ، يضعون فيهم السلاح ، وينتهبون الغنائم‏ .‏





    غلطة الرماة الفضيعة


    وبينما كان الجيش الإسلامي الصغير يسجل مرة أخري نصراً ساحقاً على أهل مكة لم يكن أقل روعة من النصر الذي اكتسبه يوم بدر ، وقعت من أغلبية فصيلة الرماة غلطة فظيعة قلبت الوضع تماماً ، وأدت إلى إلحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين ، وكادت تكون سبباً في مقتل النبي(صلى الله عليه وسلم) ، وقد تركت أسوأ أثر على سمعتهم ، وعلى الهيبة التي كانوا يتمتعون بها بعد بدر ‏.‏

    لقد أسلفنا نصوص الأوامر الشديدة التي أصدرها رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إلى هؤلاء الرماة ، بلزومهم موقفهم من الجبل في كل حال من النصر أو الهزيمة ، ولكن على رغم هذه الأوامر المشددة لما رأى هؤلاء الرماة أن المسلمين ينتهبون غنائم العدو غلبت عليهم أثارة من حب الدنيا ، فقال بعضهم لبعض ‏:‏ الغنيمة ، الغنيمة ، ظهر أصحابكم ، فما تنتظرون ‏؟‏

    أما قائدهم عبد الله بن جبير ، فقد ذكرهم أوامر الرسول(صلى الله عليه وسلم) ، وقال ‏:‏ أنسيتم ما قال لكم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏؟‏

    ولكن الأغلبية الساحقة لم تلق لهذا التذكير بالاً ، وقالت ‏:‏ والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة ‏.‏

    ثـم غـادر أربعون رجلاً أو أكثر هؤلاء الرماة مواقعهم من الجبل ، والتحقوا بسَوَاد الجيش ليشاركـوه فـي جمع الغنائم ‏.‏

    وهكذا خلت ظهور المسلمين ، ولم يبق فيها إلا ابن جبير وتسعة أو أقل من أصحابه والتزموا مواقفهم مصممين على البقاء حتى يؤذن لهم أو يبادوا ‏.‏





    خالد بن الوليد يقوم بخطة تطويق الجيش الإسلامي


    وانتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة الذهبية ، فكرَّ بسرعة خاطفة إلى جبل الرماة ليدور من خلفه إلى مؤخرة الجيش الإسلامي ، فلم يلبث أن أباد عبد الله بن جبير وأصحابه إلا البعض الذين لحقوا بالمسلمين ، ثم انقض على المسلمين من خلفهم ، وصاح فرسانه صيحة عرف بها المشركون المنهزمون بالتطور الجديد فانقلبوا على المسلمين ، وأسرعت امرأة منهم ـ وهي عمرة بنت علقمة الحارثية ـ فرفعت لواء المشركين المطروح على التراب ، فالتف حوله المشركون ولاثوا به ، وتنادي بعضهم بعضاً ، حتى اجتمعوا على المسلمين ، وثبتوا للقتال ، وأحيط المسلمون من الأمام والخلف ، ووقعوا بين شِقَّي الرحى‏ .‏





    موقف الرسول الباسل إزاء عمل التطويق


    وكان رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حينئذ في مفرزة صغيرة ـ تسعة نفر من أصحابه ـ في مؤخرة المسلمين ، كان يرقب مجالدة المسلمين ومطاردتهم المشركين ، إذ بوغت بفرسان خالد مباغتة كاملة ، فكان أمامه طريقان‏ :‏ إما أن ينجو ـ بالسرعة ـ بنفسه وبأصحابه التسعة إلى ملجأ مأمون ، ويترك جيشه المطوق إلى مصيره المقدور ، وإما أن يخاطر بنفسه فيدعو أصحابه ليجمعهم حوله ، ويتخذ بهم جبهة قوية يشق بها الطريق لجيشه المطوق إلى هضاب أحد ‏.‏

    وهناك تجلت عبقرية الرسول(صلى الله عليه وسلم) وشجاعته المنقطعة النظير ، فقد رفع صوته ينادي أصحابه ‏:‏ ‏" عباد الله "‏، وهو يعرف أن المشركين سوف يسمعون صوته قبل أن يسمعه المسلمون ، ولكنه ناداهم ودعاهم مخاطراً بنفسه في هذا الظرف الدقيق ‏.‏

    وفعلاً فقد علم به المشركون فخلصوا إليه ، قبل أن يصل إليه المسلمون .‏





    تبدد المسلمين في الموقف


    أما المسلمون فلما وقعوا في التطويق طار صواب طائفة منهم ، فلم تكن تهمها إلا أنفسها ، فقد أخذت طريق الفرار ، وتركت ساحة القتال ، وهي لا تدري ماذا وراءها ‏؟‏ وفر من هذه الطائفة بعضهم إلى المدينة حتى دخلها ، وانطلق بعضهم إلى ما فوق الجبل ‏.‏

    ورجعت طائفة أخرى فاختلطت بالمشركين ، والتبس العسكران فلم يتميزا ، فوقع القتل في المسلمين بعضهم من بعض ‏.‏

    روى البخاري عن عائشة قالت ‏:‏ لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة ، فصاح إبليس ‏:‏ أي عباد الله أخراكم ـ أي احترزوا من ورائكم ـ فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم ، فبصر حذيفة ، فإذا هو بأبيه اليمان ، فقال ‏:‏ أي عباد الله أبي أبي ‏.‏ قالت ‏:‏ فوالله ما احتجزوا عنه حتى قتلوه ، فقال حذيفة ‏:‏ يغفر الله لكم ‏.‏ قال عروة ‏:‏ فوالله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله ‏.‏

    وهذه الطائفة حدث داخل صفوفها ارتباك شديد ، وعمتها الفوضى ، وتاه منها الكثيرون ، لا يدرون أين يتوجهون ، وبينما هم كذلك إذ سمعوا صائحاً يصيح ‏:‏ إن محمداً قد قتل ، فطارت بقية صوابهم ، وانهارت الروح المعنوية أو كادت تنهار في نفوس كثير من أفرادها ، فتوقف من توقف منهم عن القتال ، وألقى بأسلحته مستكيناً ، وفكر آخرون في الاتصال بعبد الله بن أبي ـ رأس المنافقين ـ ليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان ‏. ‏ومر بهؤلاء أنس بن النضر ، وقد ألقوا ما بأيديهم فقال ‏:‏ ما تنتظرون ‏؟‏ فقالوا ‏:‏ قتل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، قال ‏:‏ ما تصنعون بالحياة بعده ‏؟‏ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ثم قال‏ :‏ اللّهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ، يعني المسلمين ، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء ، يعني المشركين ، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ ، فقال ‏:‏ أين يا أبا عمر ‏؟‏ فقال أنس ‏:‏ واها لريح الجنة يا سعد ، إني أجده دون أحد ، ثم مضي فقاتل القوم حتى قتل ، فما عرف حتى عرفته أخته ـ بعد نهاية المعركة ـ ببنانه ، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح ، وضربة بسيف ، ورمية بسهم ‏.‏

    ونادى ثابت بن الدَحْدَاح قومه فقال ‏:‏ يا معشر الأنصار ، إن كان محمد قد قتل ، فإن الله حي لا يموت ، قاتلوا على دينكم ، فإن الله مظفركم وناصركم ‏.‏ فنهض إليه نفر من الأنصار ، فحمل بهم على كتيبة فرسان خالد فما زال يقاتلهم حتى قتله خالد بالرمح ، وقتل أصحابه ‏.‏

    ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار ، وهو يتَشَحَّطُ في دمه ، فقال ‏:‏ يا فلان ، أشعرت أن محمداً قد قتل ‏؟‏ فقال الأنصاري‏ :‏ إن كان محمد قد قتل فقد بَلَّغ ، فقاتلوا عن دينكم ‏.‏

    وبمثل هذا الاستبسال والتشجيع عادت إلى جنود المسلمين روحهم المعنوية ، ورجع إليهم رشدهم وصوابهم ، فعدلوا عن فكرة الاستسلام أو الاتصال بابن أبي ، وأخذوا سلاحهم ، يهاجمون تيارات المشركين ، وهم يحاولون شق الطريق إلى مقر القيادة ، وقد بلغهم أن خبر مقتل النبي(صلى الله عليه وسلم) كذب مُخْتَلَق ، فزادهم ذلك قوة على قوتهم ، فنجحوا في الإفلات عن التطويق ، وفي التجمع حول مركز منيع ، بعد أن باشروا القتال المرير ، وجالدوا بضراوة بالغة‏ .‏

    وكانت هناك طائفة ثالثة لم يكن يهمهم إلا رسول الله(صلى الله عليه وسلم)‏ .‏

    فقد كرت هذه الطائفة إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وعمل التطويق في بدايته ، وفى مقدمة هؤلاء أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب وغيرهم ـ رضي الله عنهم ـ كانوا في مقدمة المقاتلين ، فلما أحسوا بالخطر على ذاته الشريفة ـ عليه الصلاة والسلام والتحية ـ صاروا في مقدمة المدافعين ‏.‏





    احتدام القتال حول رسول الله(صلى الله عليه وسلم)


    وبينما كانت تلك الطوائف تتلقي أواصر التطويق ، وتطحن بين شِقَّي رحى المشركين ، كان العراك محتدماً حول رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وقد ذكرنا أن المشركين لما بدءوا عمل التطويق لم يكن مع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إلا تسعة نفر ، فلما نادي المسلمين ‏:‏ ‏" ‏هلموا إلي ، أنا رسول الله "‏، سمع صوته المشركون وعرفوه ، فكروا إليه وهاجموه ، ومالوا إليه بثقلهم قبل أن يرجع إليه أحد من جيش المسلمين ، فجري بين المشركين وبين هؤلاء النفر التسعة من الصحابة عراك عنيف ظهرت فيه نوادر الحب والتفاني والبسالة والبطولة ‏.‏

    روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال ‏:‏ ‏" ‏من يردهم عنا وله الجنة ‏؟‏ أو هو رفيقي في الجنة ‏؟‏‏ "فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ثم رهقوه أيضاً فقال ‏:‏ "‏من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة ‏؟‏‏ "‏ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) لصاحبيه ـ أي القرشيين ‏:‏ "‏ما أنصفنا أصحابنا‏ "‏.‏

    وكان آخر هؤلاء السبعة هو عمارة بن يزيد بن السَّكَن ، قاتل حتى أثبتته الجراحة فسقط ‏.‏




    أحرج ساعة في حياة الرسول(صلى الله عليه وسلم)


    وبعد سقوط بن السكن بقي الرسول في القرشيين فقط ، ففي الصحيحين عن أبي عثمان قال ‏:‏ لم يبق مع النبي(صلى الله عليه وسلم) في بعض تلك الأيام التي يقاتل فيهن غير طلحة ابن عبيد الله وسعد ـ بن أبي وقاص ـ وكانت أحرج ساعة بالنسبة إلى حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وفرصة ذهبية بالنسبة إلى المشركين ، ولم يتوان المشركون في انتهاز تلك الفرصة ، فقد ركزوا حملتهم على النبي(صلى الله عليه وسلم) ، وطمعوا في القضاء عليه ، رماه عتبة بن أبي وقاص بالحجارة فوقع لشقه ، وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى ، وكُلِمَتْ شفته السفلى ، وتقدم إليه عبد الله بن شهاب الزهري فَشَجَّه في جبهته ، وجاء فارس عنيد هو عبد الله بن قَمِئَة ، فضرب على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة شكا لأجلها أكثر من شهر إلا أنه لم يتمكن من هتك الدرعين ، ثم ضرب على وجنته(صلى الله عليه وسلم) ضربة أخرى عنيفة كالأولى حتى دخلت حلقتان من حلق المِغْفَر في وجْنَتِه ، وقال‏ :‏ خذها وأنا ابن قمئة ‏.‏ فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وهو يمسح الدم عن وجهة‏ :‏ ‏" أقمأك الله‏ "‏ ‏.‏

    وفي الصحيح أنه(صلى الله عليه وسلم) كسرت رَبَاعِيَته ، وشُجَّ في رأسه ، فجعل يَسْلُتُ الدم عنه ويقول ‏:‏ "‏كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم ، وكسروا رباعيته ، وهو يدعوهم إلى الله "‏، فأنزل الله عز وجل‏ :‏ ‏" ‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏ "‏ ‏[‏آل عمران‏:‏128‏]‏ ‏.‏
    وفي رواية الطبراني أنه قال يومئذ ‏:‏ ‏" ‏اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسوله‏ "‏، ثم مكث ساعة ثم قال ‏:‏ "‏اللّهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون "‏ ، وفي صحيح مسلم أنه قال‏ : "‏رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون‏ "‏ ، وفي الشفاء للقاضي عياض أنه قال‏ :‏ "‏اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون‏ "‏‏.‏

    ولا شك أن المشركين كانوا يهدفون القضاء على حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)إلا أن القرشيين سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله قاما ببطولة نادرة ، وقاتلا ببسالة منقطعة النظير ، حتى لم يتركا ـ وهما اثنان فحسب ـ سبيلا ً إلى نجاح المشركين في هدفهم ، وكانا من أمهر رماة العرب فتناضلا حتى أجهضا مفرزة المشركين عن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏.‏

    فأما سعد بن أبي وقاص ، فقد نثل له رسول الله(صلى الله عليه وسلم) كنانته وقال‏ : "‏ارم فداك أبي وأمي "‏ ‏.‏ ويدل على مدى كفاءته أن النبي (صلى الله عليه وسلم)لم يجمع أبويه لأحد غير سعد ‏.‏

    وأما طلحة بن عبيد الله فقد روى النسائي عن جابر قصة تَجَمَّع المشركين حول رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ومعه نفر من الأنصار ، قال جابر ‏:‏ فأدرك المشركون رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فقال ‏:‏ ‏( ‏من للقوم ‏؟ ‏‏)‏ فقال طلحة ‏:‏ أنا ، ثم ذكر جابر تقدم الأنصار ، وقتلهم واحداً بعد واحد ، بنحو ما ذكرنا من رواية مسلم ، فلما قتل الأنصار كلهم تقدم طلحة ‏.‏ قال جابر ‏:‏ ثم قاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى ضربت يده فقطعت أصابعه ، فقال ‏:‏ حَسِّ ، فقال النبي(صلى الله عليه وسلم) :‏ ‏" ‏لو قلت‏:‏ بسم الله، لرفعتك الملائكة والناس ينظرون‏ "‏، قال ‏:‏ ثم رد الله المشركين ‏.‏

    ووقع عند الحاكم في الإكليل أنه جرح يوم أحد تسعاً وثلاثين أو خمساً وثلاثين ، وشلت إصبعه ، أي السبابة والتي تليها ‏.‏

    وروى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال ‏:‏ رأيت يد طلحة شلاء ، وقى بها النبي(صلى الله عليه وسلم) يوم أحد‏ .‏

    وروى الترمذي أن النبي(صلى الله عليه وسلم) قال فيه يومئذ‏ :‏ "‏من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله‏ "‏ ‏.‏

    وروى أبو داود الطيالسي عن عائشة قالت ‏:‏ كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال ‏:‏ ذلك اليوم كله لطلحة‏ .‏

    وقال فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه أيضاً‏ :‏

    يا طلحة بن عبيد الله قد وَجَبَتْ

    لك الجنان وبُوِّئتَ المَهَا العِينَا


    وفي ذلك الظرف الدقيق والساعة الحرجة أنزل الله نصره بالغيب ، ففي الصحيحين عن سعد ، قال ‏:‏ رأيت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يوم أحد ، ومعه رجلان يقاتلان عنه ، عليهما ثياب بيض كأشد القتال ، ما رأيتهما قبل ولا بعد ‏.‏ وفي رواية‏ :‏ يعني جبريل وميكائيل ‏.‏




    بداية تجمع الصحابة حول الرسول(صلى الله عليه وسلم)


    وقعت هذه كلها بسرعة هائلة في لحظات خاطفة ، وإلا فالمصطفون الأخيار من صحابته(صلى الله عليه وسلم) ـ الذين كانوا في مقدمة صفوف المسلمين عند القتال ـ لم يكادوا يرون تغير الموقف ، أو يسمعوا صوته(صلى الله عليه وسلم) حتى أسرعوا إليه ، لئلا يصل إليه شيء يكرهونه ، إلا أنهم وصلوا وقد لقي رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ما لقي من الجراحات ـ وستة من الأنصار قد قتلوا والسابع قد أثبتته الجراحات ، وسعد وطلحة يكافحان أشد الكفاح ـ فلما وصلوا أقاموا حوله سياجاً من أجسادهم وسلاحهم ، وبالغوا في وقايته من ضربات العدو ، ورد هجماته ‏.‏ وكان أول من رجع إليه هو ثانيه في الغار أبو بكر الصديق رضي الله عنه ‏.‏

    روى ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت ‏:‏ قال أبو بكر الصديق ‏:‏ لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن النبي(صلى الله عليه وسلم) ، فكنت أول من فاء إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) ، فرأيت بين يديه رجلاً يقاتل عنه ويحميه ، قلت ‏:‏ كن طلحة ، فداك أبي وأمي ، كن طلحة ، فداك أبي وأمي ، ‏[‏ حيث فاتني ما فاتني ، فقلت ‏:‏ يكون رجل من قومي أحب إلي ‏]‏ فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح ، وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني ، فدفعنا إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) ، فإذا طلحة بين يديه صريعاً ، فقال النبي(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏" ‏دونكم أخـاكم فقـد أوجب "‏، وقد رمي النبي(صلى الله عليه وسلم) في وَجْنَتِهِ حتى غابت حلقتان من حلق المِغْفَر في وجنته ، فذهبت لأنزعهما عن النبي(صلى الله عليه وسلم) فقال أبو عبيدة‏ :‏ نشدتك بالله يا أبا بكر ، إلا تركتني ، قال‏:‏ فأخذ بفيه فجعل ينَضِّـضه كراهية أن يؤذي رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ثم استل السهم بفيه ، فنَدَرَت ثنية أبي عبيدة ، قال أبو بكر ‏:‏ ثم ذهبت لآخذ الآخر ، فقال أبو عبيدة‏ :‏ نشدتك بالله يا أبا بكر ، إلا تركتني ، قال ‏: ‏فأخذه فجعل ينضضه حتى اسْتَلَّه ، فندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى ، ثم قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏: "‏دونكم أخاكم، فقد أوجب "‏، قال ‏:‏ فأقبلنا على طلحة نعالجه ، وقد أصابته بضع عشرة ضربة ‏.‏ وفي تهذيب تاريخ دمشق ‏:‏ فأتيناه في بعض تلك الحفار فإذا به بضع وستون أو أقل أو أكثر ، بين طعنة ورمية وضربة ، وإذا قد قطعت إصبعه ، فأصلحنا من شأنه ‏.‏

    وخلال هذه اللحظات الحرجة اجتمع حول النبي(صلى الله عليه وسلم) عصابة من أبطال المسلمين منهم أبو دُجَانة ، ومصعب بن عمير ، وعلى بن أبي طالب ، وسهل بن حنيف، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري ، وأم عمارة نُسَيْبة بنت كعب المازنية ، وقتادة ابن النعمان ، وعمر بن الخطاب ، وحاطب بن أبي بلتعة ، وأبو طلحة ‏.‏





    تضاعف ضغط المشركين


    كما كان عدد المشركين يتضاعف كل آن ، وبالطبع فقد اشتدت حملاتهم وزاد ضغطهم على المسلمين ، حتى سقط رسول الله (صلى الله عليه وسلم)في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها ، فجُحِشَتْ ركبته ، وأخذه علي بيده ، واحتضنه طلحة بن عبيد الله حتى استوي قائماً ، وقال نافع بن جبير‏ :‏ سمعت رجلاً من المهاجرين يقول ‏:‏ شهدت أحداً فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية ، ورسول الله(صلى الله عليه وسلم) وسطها ، كل ذلك يصرف عنه ، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ‏ :‏ دلوني على محمد ، فلا نجوت إن نجا ، ورسول الله(صلى الله عليه وسلم) إلى جنبه ، ما معه أحد ، ثم جاوزه ، فعاتبه في ذلك صفوان ، فقال ‏:‏ والله ما رأيته ، أحلف بالله إنه منا ممنوع ، خرجنا أربعة ، فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله ، فلم نخلص إلى ذلك ‏.‏



    البطولات النادرة


    وقام المسلمون ببطولات نادرة وتضحيات رائعة ، لم يعرف لها التاريخ نظيراً ‏.‏

    كان أبو طلحة يسور نفسه بين يدي رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ويرفع صدره ليقيه سهام العدو ‏.‏

    قال أنس‏ :‏ لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي(صلى الله عليه وسلم) ، وأبو طلحة بين يديه مجوب عليه بحجفة له ، وكان رجلاً رامياً شديد النزع ، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا ، وكان الرجل يمر معه بجَعْبَة من النبل فيقول ‏:‏ ‏( ‏انثرها لأبي طلحة‏ )‏ ، قال ‏:‏ ويشرف النبي (صلى الله عليه وسلم)ينظر إلى القوم ، فيقول أبو طلحة ‏:‏ بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم ، نَحْرِي دون نحرك ‏.‏

    وعنه أيضاً قال ‏:‏ كان أبو طلحة يتترس مع النبي(صلى الله عليه وسلم) بترس واحد ، وكان أبو طلحة حسن الرَّمْي ، فكان إذا رمي تشرف النبي (صلى الله عليه وسلم)، فينظر إلى موقع نبله ‏.‏

    وقام أبو دجانة أمام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فَتَرَّسَ عليه بظهره‏ ،‏ والنبل يقع عليه وهو لا يتحرك‏ .‏

    وتبع حاطب بن أبي بلتعة عتبة بن أبي وقاص ـ الذي كسر الرَّباعية الشريفة ـ فضربه بالسيف حتى طرح رأسه ، ثم أخذ فرسه وسيفه ، وكان سعد بن أبي وقاص شديد الحرص على قتل أخيه ـ عتبة هذا ـ إلا أنه لم يظفر به ، بل ظفر به حاطب‏ .‏

    وكان سهل بن حُنَيف أحد الرماة الأبطال ، بايع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على الموت ، ثم قام بدور فعال في ذود المشركين ‏.‏

    وكان رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يباشر الرماية بنفسه ، فعن قتادة بن النعمان ‏:‏ أن رسول الله رمى عن قوسه حتى اندقت سِيتُها ، فأخذها قتادة بن النعمان ، فكانت عنده ، وأصيبت يومئذ عينه حتى وقعت على وَجْنَتِه ، فردها رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بيده ، فكانت أحسن عينيه وأحَدَّهُما‏ .‏

    وقاتل عبد الرحمن بن عوف حتى أصيب فوه يومئذ فهُتِمَ ، وجرح عشرين جراحة أو أكثر ، أصابه بعضها في رجله فعرج‏ .‏

    وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته(صلى الله عليه وسلم) حتى أنقاه ، فقال ‏:‏ ‏( ‏مُجَّه ‏) ‏، فقال ‏:‏ والله لا أمجه ، ثم أدبر يقاتل ، فقال النبي(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏" ‏من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا "‏، فقتل شهيداً‏ .‏

    وقاتلت أم عمارة فاعترضت لابن قَمِئَة في أناس من المسلمين ، فضربها ابن قمئة على عاتقها ضربة تركت جرحاً أجوف ، وضربت هي ابن قمئة عدة ضربات بسيفها ، لكن كانت عليه درعان فنجا ، وبقيت أم عمارة تقاتل حتى أصابها اثنا عشر جرحاً‏ .‏

    وقاتل مصعب بن عمير بضراوة بالغة ، يدافع عن النبي(صلى الله عليه وسلم) هجوم ابن قمئة وأصحابه ، وكان اللواء بيده ، فضربوه على يده اليمني حتى قطعت ، فأخذ اللواء بيده اليسرى ، وصمد في وجوه الكفار حتى قطعت يده اليسرى ، ثم برك عليه بصدره وعنقه حتى قتل ، وكان الذي قتله هو ابن قمئة ، وهو يظنه رسول الله ـ لشبهه به ـ فانصرف ابن قمئة إلى المشركين ، وصاح ‏:‏ إن محمداً قد قتل ‏.‏



    إشاعة مقتل النبي (صلى الله عليه وسلم)


    ولم يمض على هذا الصياح دقائق ، حتى شاع خبر مقتل النبي(صلى الله عليه وسلم) في المشركين والمسلمين‏ .‏

    وهذا هو الظرف الدقيق الذي خارت فيه عزائم كثير من الصحابة المطوقين ، الذين لم يكونوا مع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وانهارت معنوياتهم ، حتى وقع داخل صفوفهم ارتباك شديد ، وعمتها الفوضى والاضطراب ، إلا أن هذه الصيحة خففت بعض التخفيف من مضاعفة هجمات المشركين ، لظنهم أنهم نجحوا في غاية مرامهم ، فاشتغل الكثير منهم بتمثيل قتلى المسلمين ‏.‏





    الرسول(صلى الله عليه وسلم) يواصل المعركة وينقذ الموقف


    ولما قتل مصعب أعطي رسول الله اللواء على بن أبي طالب ، فقاتل قتالاً شديداً ، وقامت بقية الصحابة الموجودين هناك ببطولاتهم النادرة ، يقاتلون ويدافعون ‏.‏

    وحينئذ استطاع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أن يشق الطريق إلى جيشه المطوق ، فأقبل إليهم فعرفه كعب بن مالك ـ وكان أول من عرفه ـ فنادي بأعلى صوته ‏:‏ يا معشر المسلمين أبشروا ، هذا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فأشار إليه أن اصمت ـ وذلك لئلا يعرف موضعه المشركون ـ إلا أن هذا الصوت بلغ إلى آذان المسلمين ، فلاذ إليه المسلمون حتى تجمع حوله حوالى ثلاثين رجلاً من الصحابة ‏.‏

    وبعد هذا التجمع أخذ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في الانسحاب المنظم إلى شعب الجبل ، وهو يشق الطريق بين المشركين المهاجمين ، واشتد المشركون في هجومهم ، لعرقلة الانسحاب إلا أنهم فشلوا أمام بسالة ليوث الإسلام ‏.‏

    تقدم عثمان بن عبد الله بن المغيرة ـ أحد فرسان المشركين ـ إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وهو يقول‏ :‏ لا نجوت إن نجا‏ .‏ وقام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) لمواجهته ، إلا أن الفرس عثرت في بعض الحفر ، فنازله الحارث بن الصِّمَّة ، فضرب على رجله فأقعده ، ثم ذَفَّفَ عليه وأخذ سلاحه ، والتحق برسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏.‏

    وعطف عبد الله بن جابر ـ فارس آخر من فرسان مكة ـ على الحارث بن الصِّمَّة ، فضرب بالسيف على عاتقه فجرحه حتى حمله المسلمون ولكن انقض أبو دجانة ـ البطل المغامر ذو العصابة الحمراء ـ على عبد الله بن جابر فضربه بالسيف ضربة أطارت رأسه ‏.‏

    وأثناء هذا القتال المرير كان المسلمون يأخذهم النعاس أمنة من الله ، كما تحدث عنه القرآن ‏.‏ قال أبو طلحة ‏:‏ كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مراراً ، يسقط وآخذه ويسقط وآخذه ‏.‏

    وبمثل هذه البسالة بلغت هذه الكتيبة ـ في انسحاب منظم ـ إلى شعب الجبل ، وشق لبقية الجيش طريقاً إلى هذا المقام المأمون ، فتلاحق به في الجبل ، وفشلت عبقرية خالد أمام عبقرية رسول الله(صلى الله عليه وسلم)

      الوقت/التاريخ الآن هو السبت نوفمبر 23, 2024 11:30 pm