( رواهـــــــــــــــــــي أون لايـــــــــــــــــــــــــن ) ROAHY AUN LAUN

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
( رواهـــــــــــــــــــي أون لايـــــــــــــــــــــــــن ) ROAHY AUN LAUN

الهم صلي على سبدنا محمد واله وصحبة اجمعين


    غزوة أحد_قبسات من الرحيق المختوم

    ابو عبد الهادي
    ابو عبد الهادي
    Admin


    عدد المساهمات : 168
    تاريخ التسجيل : 06/12/2009

    غزوة أحد_قبسات من الرحيق المختوم Empty غزوة أحد_قبسات من الرحيق المختوم

    مُساهمة من طرف ابو عبد الهادي الأربعاء ديسمبر 16, 2009 11:09 pm

    خالد بن الوليد يقوم بخطة تطويق الجيش الإسلامي


    وانتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة الذهبية ، فكرَّ بسرعة خاطفة إلى جبل الرماة ليدور من خلفه إلى مؤخرة الجيش الإسلامي ، فلم يلبث أن أباد عبد الله بن جبير وأصحابه إلا البعض الذين لحقوا بالمسلمين ، ثم انقض على المسلمين من خلفهم ، وصاح فرسانه صيحة عرف بها المشركون المنهزمون بالتطور الجديد فانقلبوا على المسلمين ، وأسرعت امرأة منهم ـ وهي عمرة بنت علقمة الحارثية ـ فرفعت لواء المشركين المطروح على التراب ، فالتف حوله المشركون ولاثوا به ، وتنادي بعضهم بعضاً ، حتى اجتمعوا على المسلمين ، وثبتوا للقتال ، وأحيط المسلمون من الأمام والخلف ، ووقعوا بين شِقَّي الرحى‏ .‏





    موقف الرسول الباسل إزاء عمل التطويق


    وكان رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حينئذ في مفرزة صغيرة ـ تسعة نفر من أصحابه ـ في مؤخرة المسلمين ، كان يرقب مجالدة المسلمين ومطاردتهم المشركين ، إذ بوغت بفرسان خالد مباغتة كاملة ، فكان أمامه طريقان‏ :‏ إما أن ينجو ـ بالسرعة ـ بنفسه وبأصحابه التسعة إلى ملجأ مأمون ، ويترك جيشه المطوق إلى مصيره المقدور ، وإما أن يخاطر بنفسه فيدعو أصحابه ليجمعهم حوله ، ويتخذ بهم جبهة قوية يشق بها الطريق لجيشه المطوق إلى هضاب أحد ‏.‏

    وهناك تجلت عبقرية الرسول(صلى الله عليه وسلم) وشجاعته المنقطعة النظير ، فقد رفع صوته ينادي أصحابه ‏:‏ ‏" عباد الله "‏، وهو يعرف أن المشركين سوف يسمعون صوته قبل أن يسمعه المسلمون ، ولكنه ناداهم ودعاهم مخاطراً بنفسه في هذا الظرف الدقيق ‏.‏

    وفعلاً فقد علم به المشركون فخلصوا إليه ، قبل أن يصل إليه المسلمون .‏





    تبدد المسلمين في الموقف


    أما المسلمون فلما وقعوا في التطويق طار صواب طائفة منهم ، فلم تكن تهمها إلا أنفسها ، فقد أخذت طريق الفرار ، وتركت ساحة القتال ، وهي لا تدري ماذا وراءها ‏؟‏ وفر من هذه الطائفة بعضهم إلى المدينة حتى دخلها ، وانطلق بعضهم إلى ما فوق الجبل ‏.‏

    ورجعت طائفة أخرى فاختلطت بالمشركين ، والتبس العسكران فلم يتميزا ، فوقع القتل في المسلمين بعضهم من بعض ‏.‏

    روى البخاري عن عائشة قالت ‏:‏ لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة ، فصاح إبليس ‏:‏ أي عباد الله أخراكم ـ أي احترزوا من ورائكم ـ فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم ، فبصر حذيفة ، فإذا هو بأبيه اليمان ، فقال ‏:‏ أي عباد الله أبي أبي ‏.‏ قالت ‏:‏ فوالله ما احتجزوا عنه حتى قتلوه ، فقال حذيفة ‏:‏ يغفر الله لكم ‏.‏ قال عروة ‏:‏ فوالله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله ‏.‏

    وهذه الطائفة حدث داخل صفوفها ارتباك شديد ، وعمتها الفوضى ، وتاه منها الكثيرون ، لا يدرون أين يتوجهون ، وبينما هم كذلك إذ سمعوا صائحاً يصيح ‏:‏ إن محمداً قد قتل ، فطارت بقية صوابهم ، وانهارت الروح المعنوية أو كادت تنهار في نفوس كثير من أفرادها ، فتوقف من توقف منهم عن القتال ، وألقى بأسلحته مستكيناً ، وفكر آخرون في الاتصال بعبد الله بن أبي ـ رأس المنافقين ـ ليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان ‏. ‏ومر بهؤلاء أنس بن النضر ، وقد ألقوا ما بأيديهم فقال ‏:‏ ما تنتظرون ‏؟‏ فقالوا ‏:‏ قتل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، قال ‏:‏ ما تصنعون بالحياة بعده ‏؟‏ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ثم قال‏ :‏ اللّهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ، يعني المسلمين ، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء ، يعني المشركين ، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ ، فقال ‏:‏ أين يا أبا عمر ‏؟‏ فقال أنس ‏:‏ واها لريح الجنة يا سعد ، إني أجده دون أحد ، ثم مضي فقاتل القوم حتى قتل ، فما عرف حتى عرفته أخته ـ بعد نهاية المعركة ـ ببنانه ، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح ، وضربة بسيف ، ورمية بسهم ‏.‏

    ونادى ثابت بن الدَحْدَاح قومه فقال ‏:‏ يا معشر الأنصار ، إن كان محمد قد قتل ، فإن الله حي لا يموت ، قاتلوا على دينكم ، فإن الله مظفركم وناصركم ‏.‏ فنهض إليه نفر من الأنصار ، فحمل بهم على كتيبة فرسان خالد فما زال يقاتلهم حتى قتله خالد بالرمح ، وقتل أصحابه ‏.‏

    ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار ، وهو يتَشَحَّطُ في دمه ، فقال ‏:‏ يا فلان ، أشعرت أن محمداً قد قتل ‏؟‏ فقال الأنصاري‏ :‏ إن كان محمد قد قتل فقد بَلَّغ ، فقاتلوا عن دينكم ‏.‏

    وبمثل هذا الاستبسال والتشجيع عادت إلى جنود المسلمين روحهم المعنوية ، ورجع إليهم رشدهم وصوابهم ، فعدلوا عن فكرة الاستسلام أو الاتصال بابن أبي ، وأخذوا سلاحهم ، يهاجمون تيارات المشركين ، وهم يحاولون شق الطريق إلى مقر القيادة ، وقد بلغهم أن خبر مقتل النبي(صلى الله عليه وسلم) كذب مُخْتَلَق ، فزادهم ذلك قوة على قوتهم ، فنجحوا في الإفلات عن التطويق ، وفي التجمع حول مركز منيع ، بعد أن باشروا القتال المرير ، وجالدوا بضراوة بالغة‏ .‏

    وكانت هناك طائفة ثالثة لم يكن يهمهم إلا رسول الله(صلى الله عليه وسلم)‏ .‏

    فقد كرت هذه الطائفة إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وعمل التطويق في بدايته ، وفى مقدمة هؤلاء أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب وغيرهم ـ رضي الله عنهم ـ كانوا في مقدمة المقاتلين ، فلما أحسوا بالخطر على ذاته الشريفة ـ عليه الصلاة والسلام والتحية ـ صاروا في مقدمة المدافعين ‏.‏





    احتدام القتال حول رسول الله(صلى الله عليه وسلم)


    وبينما كانت تلك الطوائف تتلقي أواصر التطويق ، وتطحن بين شِقَّي رحى المشركين ، كان العراك محتدماً حول رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وقد ذكرنا أن المشركين لما بدءوا عمل التطويق لم يكن مع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إلا تسعة نفر ، فلما نادي المسلمين ‏:‏ ‏" ‏هلموا إلي ، أنا رسول الله "‏، سمع صوته المشركون وعرفوه ، فكروا إليه وهاجموه ، ومالوا إليه بثقلهم قبل أن يرجع إليه أحد من جيش المسلمين ، فجري بين المشركين وبين هؤلاء النفر التسعة من الصحابة عراك عنيف ظهرت فيه نوادر الحب والتفاني والبسالة والبطولة ‏.‏

    روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال ‏:‏ ‏" ‏من يردهم عنا وله الجنة ‏؟‏ أو هو رفيقي في الجنة ‏؟‏‏ "فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ثم رهقوه أيضاً فقال ‏:‏ "‏من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة ‏؟‏‏ "‏ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) لصاحبيه ـ أي القرشيين ‏:‏ "‏ما أنصفنا أصحابنا‏ "‏.‏

    وكان آخر هؤلاء السبعة هو عمارة بن يزيد بن السَّكَن ، قاتل حتى أثبتته الجراحة فسقط ‏.‏




    أحرج ساعة في حياة الرسول(صلى الله عليه وسلم)


    وبعد سقوط بن السكن بقي الرسول في القرشيين فقط ، ففي الصحيحين عن أبي عثمان قال ‏:‏ لم يبق مع النبي(صلى الله عليه وسلم) في بعض تلك الأيام التي يقاتل فيهن غير طلحة ابن عبيد الله وسعد ـ بن أبي وقاص ـ وكانت أحرج ساعة بالنسبة إلى حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وفرصة ذهبية بالنسبة إلى المشركين ، ولم يتوان المشركون في انتهاز تلك الفرصة ، فقد ركزوا حملتهم على النبي(صلى الله عليه وسلم) ، وطمعوا في القضاء عليه ، رماه عتبة بن أبي وقاص بالحجارة فوقع لشقه ، وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى ، وكُلِمَتْ شفته السفلى ، وتقدم إليه عبد الله بن شهاب الزهري فَشَجَّه في جبهته ، وجاء فارس عنيد هو عبد الله بن قَمِئَة ، فضرب على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة شكا لأجلها أكثر من شهر إلا أنه لم يتمكن من هتك الدرعين ، ثم ضرب على وجنته(صلى الله عليه وسلم) ضربة أخرى عنيفة كالأولى حتى دخلت حلقتان من حلق المِغْفَر في وجْنَتِه ، وقال‏ :‏ خذها وأنا ابن قمئة ‏.‏ فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وهو يمسح الدم عن وجهة‏ :‏ ‏" أقمأك الله‏ "‏ ‏.‏

    وفي الصحيح أنه(صلى الله عليه وسلم) كسرت رَبَاعِيَته ، وشُجَّ في رأسه ، فجعل يَسْلُتُ الدم عنه ويقول ‏:‏ "‏كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم ، وكسروا رباعيته ، وهو يدعوهم إلى الله "‏، فأنزل الله عز وجل‏ :‏ ‏" ‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏ "‏ ‏[‏آل عمران‏:‏128‏]‏ ‏.‏
    وفي رواية الطبراني أنه قال يومئذ ‏:‏ ‏" ‏اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسوله‏ "‏، ثم مكث ساعة ثم قال ‏:‏ "‏اللّهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون "‏ ، وفي صحيح مسلم أنه قال‏ : "‏رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون‏ "‏ ، وفي الشفاء للقاضي عياض أنه قال‏ :‏ "‏اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون‏ "‏‏.‏

    ولا شك أن المشركين كانوا يهدفون القضاء على حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)إلا أن القرشيين سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله قاما ببطولة نادرة ، وقاتلا ببسالة منقطعة النظير ، حتى لم يتركا ـ وهما اثنان فحسب ـ سبيلا ً إلى نجاح المشركين في هدفهم ، وكانا من أمهر رماة العرب فتناضلا حتى أجهضا مفرزة المشركين عن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏.‏

    فأما سعد بن أبي وقاص ، فقد نثل له رسول الله(صلى الله عليه وسلم) كنانته وقال‏ : "‏ارم فداك أبي وأمي "‏ ‏.‏ ويدل على مدى كفاءته أن النبي (صلى الله عليه وسلم)لم يجمع أبويه لأحد غير سعد ‏.‏

    وأما طلحة بن عبيد الله فقد روى النسائي عن جابر قصة تَجَمَّع المشركين حول رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ومعه نفر من الأنصار ، قال جابر ‏:‏ فأدرك المشركون رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فقال ‏:‏ ‏( ‏من للقوم ‏؟ ‏‏)‏ فقال طلحة ‏:‏ أنا ، ثم ذكر جابر تقدم الأنصار ، وقتلهم واحداً بعد واحد ، بنحو ما ذكرنا من رواية مسلم ، فلما قتل الأنصار كلهم تقدم طلحة ‏.‏ قال جابر ‏:‏ ثم قاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى ضربت يده فقطعت أصابعه ، فقال ‏:‏ حَسِّ ، فقال النبي(صلى الله عليه وسلم) :‏ ‏" ‏لو قلت‏:‏ بسم الله، لرفعتك الملائكة والناس ينظرون‏ "‏، قال ‏:‏ ثم رد الله المشركين ‏.‏

    ووقع عند الحاكم في الإكليل أنه جرح يوم أحد تسعاً وثلاثين أو خمساً وثلاثين ، وشلت إصبعه ، أي السبابة والتي تليها ‏.‏

    وروى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال ‏:‏ رأيت يد طلحة شلاء ، وقى بها النبي(صلى الله عليه وسلم) يوم أحد‏ .‏

    وروى الترمذي أن النبي(صلى الله عليه وسلم) قال فيه يومئذ‏ :‏ "‏من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله‏ "‏ ‏.‏

    وروى أبو داود الطيالسي عن عائشة قالت ‏:‏ كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال ‏:‏ ذلك اليوم كله لطلحة‏ .‏

    وقال فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه أيضاً‏ :‏

    يا طلحة بن عبيد الله قد وَجَبَتْ

    لك الجنان وبُوِّئتَ المَهَا العِينَا


    وفي ذلك الظرف الدقيق والساعة الحرجة أنزل الله نصره بالغيب ، ففي الصحيحين عن سعد ، قال ‏:‏ رأيت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يوم أحد ، ومعه رجلان يقاتلان عنه ، عليهما ثياب بيض كأشد القتال ، ما رأيتهما قبل ولا بعد ‏.‏ وفي رواية‏ :‏ يعني جبريل وميكائيل ‏.‏




    بداية تجمع الصحابة حول الرسول(صلى الله عليه وسلم)


    وقعت هذه كلها بسرعة هائلة في لحظات خاطفة ، وإلا فالمصطفون الأخيار من صحابته(صلى الله عليه وسلم) ـ الذين كانوا في مقدمة صفوف المسلمين عند القتال ـ لم يكادوا يرون تغير الموقف ، أو يسمعوا صوته(صلى الله عليه وسلم) حتى أسرعوا إليه ، لئلا يصل إليه شيء يكرهونه ، إلا أنهم وصلوا وقد لقي رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ما لقي من الجراحات ـ وستة من الأنصار قد قتلوا والسابع قد أثبتته الجراحات ، وسعد وطلحة يكافحان أشد الكفاح ـ فلما وصلوا أقاموا حوله سياجاً من أجسادهم وسلاحهم ، وبالغوا في وقايته من ضربات العدو ، ورد هجماته ‏.‏ وكان أول من رجع إليه هو ثانيه في الغار أبو بكر الصديق رضي الله عنه ‏.‏

    روى ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت ‏:‏ قال أبو بكر الصديق ‏:‏ لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن النبي(صلى الله عليه وسلم) ، فكنت أول من فاء إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) ، فرأيت بين يديه رجلاً يقاتل عنه ويحميه ، قلت ‏:‏ كن طلحة ، فداك أبي وأمي ، كن طلحة ، فداك أبي وأمي ، ‏[‏ حيث فاتني ما فاتني ، فقلت ‏:‏ يكون رجل من قومي أحب إلي ‏]‏ فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح ، وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني ، فدفعنا إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) ، فإذا طلحة بين يديه صريعاً ، فقال النبي(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏" ‏دونكم أخـاكم فقـد أوجب "‏، وقد رمي النبي(صلى الله عليه وسلم) في وَجْنَتِهِ حتى غابت حلقتان من حلق المِغْفَر في وجنته ، فذهبت لأنزعهما عن النبي(صلى الله عليه وسلم) فقال أبو عبيدة‏ :‏ نشدتك بالله يا أبا بكر ، إلا تركتني ، قال‏:‏ فأخذ بفيه فجعل ينَضِّـضه كراهية أن يؤذي رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ثم استل السهم بفيه ، فنَدَرَت ثنية أبي عبيدة ، قال أبو بكر ‏:‏ ثم ذهبت لآخذ الآخر ، فقال أبو عبيدة‏ :‏ نشدتك بالله يا أبا بكر ، إلا تركتني ، قال ‏: ‏فأخذه فجعل ينضضه حتى اسْتَلَّه ، فندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى ، ثم قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏: "‏دونكم أخاكم، فقد أوجب "‏، قال ‏:‏ فأقبلنا على طلحة نعالجه ، وقد أصابته بضع عشرة ضربة ‏.‏ وفي تهذيب تاريخ دمشق ‏:‏ فأتيناه في بعض تلك الحفار فإذا به بضع وستون أو أقل أو أكثر ، بين طعنة ورمية وضربة ، وإذا قد قطعت إصبعه ، فأصلحنا من شأنه ‏.‏

    وخلال هذه اللحظات الحرجة اجتمع حول النبي(صلى الله عليه وسلم) عصابة من أبطال المسلمين منهم أبو دُجَانة ، ومصعب بن عمير ، وعلى بن أبي طالب ، وسهل بن حنيف، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري ، وأم عمارة نُسَيْبة بنت كعب المازنية ، وقتادة ابن النعمان ، وعمر بن الخطاب ، وحاطب بن أبي بلتعة ، وأبو طلحة ‏.‏





    تضاعف ضغط المشركين


    كما كان عدد المشركين يتضاعف كل آن ، وبالطبع فقد اشتدت حملاتهم وزاد ضغطهم على المسلمين ، حتى سقط رسول الله (صلى الله عليه وسلم)في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها ، فجُحِشَتْ ركبته ، وأخذه علي بيده ، واحتضنه طلحة بن عبيد الله حتى استوي قائماً ، وقال نافع بن جبير‏ :‏ سمعت رجلاً من المهاجرين يقول ‏:‏ شهدت أحداً فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية ، ورسول الله(صلى الله عليه وسلم) وسطها ، كل ذلك يصرف عنه ، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ‏ :‏ دلوني على محمد ، فلا نجوت إن نجا ، ورسول الله(صلى الله عليه وسلم) إلى جنبه ، ما معه أحد ، ثم جاوزه ، فعاتبه في ذلك صفوان ، فقال ‏:‏ والله ما رأيته ، أحلف بالله إنه منا ممنوع ، خرجنا أربعة ، فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله ، فلم نخلص إلى ذلك ‏.‏



    البطولات النادرة


    وقام المسلمون ببطولات نادرة وتضحيات رائعة ، لم يعرف لها التاريخ نظيراً ‏.‏

    كان أبو طلحة يسور نفسه بين يدي رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ويرفع صدره ليقيه سهام العدو ‏.‏

    قال أنس‏ :‏ لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي(صلى الله عليه وسلم) ، وأبو طلحة بين يديه مجوب عليه بحجفة له ، وكان رجلاً رامياً شديد النزع ، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا ، وكان الرجل يمر معه بجَعْبَة من النبل فيقول ‏:‏ ‏( ‏انثرها لأبي طلحة‏ )‏ ، قال ‏:‏ ويشرف النبي (صلى الله عليه وسلم)ينظر إلى القوم ، فيقول أبو طلحة ‏:‏ بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم ، نَحْرِي دون نحرك ‏.‏

    وعنه أيضاً قال ‏:‏ كان أبو طلحة يتترس مع النبي(صلى الله عليه وسلم) بترس واحد ، وكان أبو طلحة حسن الرَّمْي ، فكان إذا رمي تشرف النبي (صلى الله عليه وسلم)، فينظر إلى موقع نبله ‏.‏

    وقام أبو دجانة أمام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فَتَرَّسَ عليه بظهره‏ ،‏ والنبل يقع عليه وهو لا يتحرك‏ .‏

    وتبع حاطب بن أبي بلتعة عتبة بن أبي وقاص ـ الذي كسر الرَّباعية الشريفة ـ فضربه بالسيف حتى طرح رأسه ، ثم أخذ فرسه وسيفه ، وكان سعد بن أبي وقاص شديد الحرص على قتل أخيه ـ عتبة هذا ـ إلا أنه لم يظفر به ، بل ظفر به حاطب‏ .‏

    وكان سهل بن حُنَيف أحد الرماة الأبطال ، بايع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على الموت ، ثم قام بدور فعال في ذود المشركين ‏.‏

    وكان رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يباشر الرماية بنفسه ، فعن قتادة بن النعمان ‏:‏ أن رسول الله رمى عن قوسه حتى اندقت سِيتُها ، فأخذها قتادة بن النعمان ، فكانت عنده ، وأصيبت يومئذ عينه حتى وقعت على وَجْنَتِه ، فردها رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بيده ، فكانت أحسن عينيه وأحَدَّهُما‏ .‏

    وقاتل عبد الرحمن بن عوف حتى أصيب فوه يومئذ فهُتِمَ ، وجرح عشرين جراحة أو أكثر ، أصابه بعضها في رجله فعرج‏ .‏

    وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته(صلى الله عليه وسلم) حتى أنقاه ، فقال ‏:‏ ‏( ‏مُجَّه ‏) ‏، فقال ‏:‏ والله لا أمجه ، ثم أدبر يقاتل ، فقال النبي(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏" ‏من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا "‏، فقتل شهيداً‏ .‏

    وقاتلت أم عمارة فاعترضت لابن قَمِئَة في أناس من المسلمين ، فضربها ابن قمئة على عاتقها ضربة تركت جرحاً أجوف ، وضربت هي ابن قمئة عدة ضربات بسيفها ، لكن كانت عليه درعان فنجا ، وبقيت أم عمارة تقاتل حتى أصابها اثنا عشر جرحاً‏ .‏

    وقاتل مصعب بن عمير بضراوة بالغة ، يدافع عن النبي(صلى الله عليه وسلم) هجوم ابن قمئة وأصحابه ، وكان اللواء بيده ، فضربوه على يده اليمني حتى قطعت ، فأخذ اللواء بيده اليسرى ، وصمد في وجوه الكفار حتى قطعت يده اليسرى ، ثم برك عليه بصدره وعنقه حتى قتل ، وكان الذي قتله هو ابن قمئة ، وهو يظنه رسول الله ـ لشبهه به ـ فانصرف ابن قمئة إلى المشركين ، وصاح ‏:‏ إن محمداً قد قتل ‏.‏



    إشاعة مقتل النبي (صلى الله عليه وسلم)


    ولم يمض على هذا الصياح دقائق ، حتى شاع خبر مقتل النبي(صلى الله عليه وسلم) في المشركين والمسلمين‏ .‏

    وهذا هو الظرف الدقيق الذي خارت فيه عزائم كثير من الصحابة المطوقين ، الذين لم يكونوا مع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وانهارت معنوياتهم ، حتى وقع داخل صفوفهم ارتباك شديد ، وعمتها الفوضى والاضطراب ، إلا أن هذه الصيحة خففت بعض التخفيف من مضاعفة هجمات المشركين ، لظنهم أنهم نجحوا في غاية مرامهم ، فاشتغل الكثير منهم بتمثيل قتلى المسلمين ‏.‏





    الرسول(صلى الله عليه وسلم) يواصل المعركة وينقذ الموقف


    ولما قتل مصعب أعطي رسول الله اللواء على بن أبي طالب ، فقاتل قتالاً شديداً ، وقامت بقية الصحابة الموجودين هناك ببطولاتهم النادرة ، يقاتلون ويدافعون ‏.‏

    وحينئذ استطاع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أن يشق الطريق إلى جيشه المطوق ، فأقبل إليهم فعرفه كعب بن مالك ـ وكان أول من عرفه ـ فنادي بأعلى صوته ‏:‏ يا معشر المسلمين أبشروا ، هذا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فأشار إليه أن اصمت ـ وذلك لئلا يعرف موضعه المشركون ـ إلا أن هذا الصوت بلغ إلى آذان المسلمين ، فلاذ إليه المسلمون حتى تجمع حوله حوالى ثلاثين رجلاً من الصحابة ‏.‏

    وبعد هذا التجمع أخذ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في الانسحاب المنظم إلى شعب الجبل ، وهو يشق الطريق بين المشركين المهاجمين ، واشتد المشركون في هجومهم ، لعرقلة الانسحاب إلا أنهم فشلوا أمام بسالة ليوث الإسلام ‏.‏

    تقدم عثمان بن عبد الله بن المغيرة ـ أحد فرسان المشركين ـ إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وهو يقول‏ :‏ لا نجوت إن نجا‏ .‏ وقام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) لمواجهته ، إلا أن الفرس عثرت في بعض الحفر ، فنازله الحارث بن الصِّمَّة ، فضرب على رجله فأقعده ، ثم ذَفَّفَ عليه وأخذ سلاحه ، والتحق برسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏.‏

    وعطف عبد الله بن جابر ـ فارس آخر من فرسان مكة ـ على الحارث بن الصِّمَّة ، فضرب بالسيف على عاتقه فجرحه حتى حمله المسلمون ولكن انقض أبو دجانة ـ البطل المغامر ذو العصابة الحمراء ـ على عبد الله بن جابر فضربه بالسيف ضربة أطارت رأسه ‏.‏

    وأثناء هذا القتال المرير كان المسلمون يأخذهم النعاس أمنة من الله ، كما تحدث عنه القرآن ‏.‏ قال أبو طلحة ‏:‏ كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مراراً ، يسقط وآخذه ويسقط وآخذه ‏.‏

    وبمثل هذه البسالة بلغت هذه الكتيبة ـ في انسحاب منظم ـ إلى شعب الجبل ، وشق لبقية الجيش طريقاً إلى هذا المقام المأمون ، فتلاحق به في الجبل ، وفشلت عبقرية خالد أمام عبقرية رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏.‏





    مقتل أبي بن خلف


    قال ابن إسحاق‏ :‏ فلما أسند رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول ‏:‏ أين محمد ‏؟‏ لا نجوتُ إن نجا ‏.‏ فقال القوم ‏:‏ يا رسول الله ، أيعطف عليه رجل منا ‏؟‏ فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم)‏ : ‏‏( ‏دعوه ‏)‏ ، فلما دنا منه تناول رسول الله(صلى الله عليه وسلم) الحربة من الحارث بن الصمة ، فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض ، ثم استقبله وأبصر تَرْقُوَتَه من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة ، فطعنه فيها طعنة تدأدأ ـ تدحرج ـ منها عن فرسه مراراً‏ .‏ فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشاً غير كبير، فاحتقن الدم ، قال ‏:‏ قتلني والله محمد ، قالوا له‏:‏ ذهب والله فؤادك ، والله إن بك من بأس ، قال ‏:‏ إنه قد كان قال لي بمكة‏ : ‏‏( ‏أنا أقتلك‏ )‏ ، فوالله لو بصق على لقتلني ‏.‏ فمات عدو الله بسَرِف وهم قافلون به إلى مكة ‏.

    ‏وفي رواية أبي الأسود عن عروة ، وكذا في رواية سعيد بن المسيب عن أبيه ‏:‏ أنه كان يخور خوار الثور ، ويقول‏ :‏ والذي نفسي بيده ، لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا جميعاً ‏.‏





    طلحة ينهض بالنبي(صلى الله عليه وسلم)


    وفي أثناء انسحاب رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إلى الجبل عرضت له صخرة من الجبل ، فنهض إليها ليعلوها فلم يستطع ، لأنه كان قد بَدَّنَ وظاهر بين الدرعين ، وقد أصابه جرح شديد‏ . ‏فجلس تحته طلحة بن عبيد الله ، فنهض به حتى استوي عليها ، وقال ‏:‏ ‏(‏ أوْجَبَ طلحةُ ‏)‏ ، أي ‏: ‏الجنة‏ .‏





    آخر هجوم قام به المشركون


    ولما تمكن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) من مقر قيادته في الشعب قام المشركون بآخر هجوم حاولوا به النيل من المسلمين‏ .‏

    قال ابن إسحاق ‏:‏ بينا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في الشعب إذ علت عالية من قريش الجبل ـ يقودهم أبو سفيان وخالد بن الوليد ـ فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏" ‏اللّهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا‏ "‏ ، فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل ‏.‏

    وفي مغازي الأموي ‏:‏ أن المشركين صعدوا على الجبل ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) لسعد ‏: ‏‏( ‏اجْنُبْهُمْ ‏)‏ ـ يقول ‏:‏ ارددهم ـ فقال ‏:‏ كيف أجْنُبُهُمْ وحدي ‏؟‏ فقال ذلك ثلاثاً ، فأخذ سعد سهماً من كنانته ، فرمي به رجلاً فقتله ، قال‏ :‏ ثم أخذت سهمي أعرفه ، فرميت به آخر، فقتلته ، ثم أخذته أعرفه فرميت به آخر فقتلته ، فهبطوا من مكانهم ، فقلت ‏:‏ هذا سهم مبارك ، فجعلته في كنانتي‏ .‏ فكان عند سعد حتى مات ، ثم كان عند بنيه ‏.‏





    تشويه الشهداء


    وكان هذا آخر هجوم قام به المشركون ضد النبي(صلى الله عليه وسلم)، ولما لم يكونوا يعرفون من مصيره شيئاً ـ بل كانوا على شبه اليقين من قتله ـ رجعوا إلى مقرهم ، وأخذوا يتهيأون للرجوع إلى مكة ، واشتغل من اشتغل منهم ـ وكذا اشتغلت نساؤهم ـ بقتلي المسلمين ، يمثلون بهم ، ويقطعون الآذان والأنوف والفروج ، ويبقرون البطون ‏.‏ وبقرت هند بنت عتبة كبد حمزة فلاكتها ، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها ، واتخذت من الآذان والأنوف خَدَماً ـ خلاخيل ـ وقلائد





    مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال حتى نهاية المعركة


    وفي هذه الساعة الأخيرة وقعت وقعتان تدلان على مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال ، ومدى استماتتهم في سبيل الله ‏:‏

    1‏.‏ قال كعب بن مالك ‏:‏ كنت فيمن خرج من المسلمين ، فلما رأيت تمثيل المشركين بقتلى المسلمين قمت فتجاوزت ، فإذا رجل من المشركين جمع اللأمة يجوز المسلمين وهو يقول ‏:‏ استوسقوا كما استوسقت جزر الغنم‏ .‏ وإذا رجل من المسلمين ينتظره وعليه لأمته ، فمضيت حتى كنت من ورائه ، ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصري ، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيئة ، فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا ، فضرب المسلم الكافر ضربة فبلغت وركه وتفرق فرقتين ، ثم كشف المسلم عن وجهه ، وقال ‏:‏ كيف ترى يا كعب ‏؟‏ أنا أبو دجانة ‏.‏

    2‏.‏ جاءت نسوة من المؤمنين إلى ساحة القتال بعد نهاية المعركة ، قال أنس :‏ لقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم ، وإنهما لمشمرتان ـ أرى خَدَم سوقهما ـ تَنْقُزَانِ القِرَبَ على متونهما ، تفرغانه في أفواه القوم ، ثم ترجعان فتملآنها ، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم ‏.‏ وقال عمر ‏:‏ كانت ‏[ ‏أم سَلِيط من نساء الأنصار ‏]‏ تزفر لنا القرب يوم أحد ‏.‏

    وكانت في هؤلاء النسوة أم أيمن ، لما رأت فلول المسلمين يريدون دخول المدينة ، أخذت تحثو التراب في وجوههم وتقول لبعضهم‏ :‏ هاك المغزل ، وهلم سيفك ‏.‏ ثم سارعت إلى ساحة القتال ، فأخذت تسقي الجرحى ، فرماها حِبَّان ـ بالكسر ـ بن العَرَقَة بسهم ، فوقعت وتكشفت ، فأغرق عدو الله في الضحك ، فشق ذلك على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فدفع إلى سعد بن بي وقاص سهماً لا نصل له ، وقال ‏: ‏‏( ‏ارم به ‏)‏ ، فرمى به سعد ، فوقع السهم في نحر حبان ، فوقع مستلقياً حتى تكشف ، فضحك رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حتى بدت نواجذه ، ثم قال :‏ ‏( ‏استقاد لها سعد ، أجاب الله دعوته ‏)‏ ‏.‏

    بعد إنتهاء الرسول (صلى الله عليه وسلم)إلى الشعب


    ولما استقر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في مقره من الشِّعب خرج على أبي طالب حتى ملأ دَرَقَته ماء من المِهْرَاس ـ قيل ‏:‏ هو صخرة منقورة تسع كثيراً ‏.‏ وقيل ‏:‏ اسم ماء بأحد ـ فجاء به إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ليشرب منه ، فوجد له ريحاً فعافه ، فلم يشرب منه ، وغسل عن وجهه الدم ، وصب على رأسه وهو يقول ‏:‏ "‏اشتد غضب الله على من دَمَّى وجه نبيه‏ "‏ ‏.‏

    وقال سهل ‏:‏ والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ومن كان يسكب الماء ، وبما دُووِي ‏؟‏ كانت فاطمة ابنته تغسله ، وعلي بن أبي طالب يسكب الماء بالمِجَنِّ ، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير ، فأحرقتها ، فألصقتها فاستمسك الدم‏ .‏

    وجاء محمد بن مسلمة بماء عذب سائغ ، فشرب منه النبي(صلى الله عليه وسلم) ودعا له بخير ، وصلى الظهر قاعداً من أثر الجراح ، وصلى المسلمون خلفه قعوداً .




    شماتة أبي سفيان


    ولما تكامل تهيؤ المشركين للانـصراف أشـرف أبو سفـيان على الجبل ، فـنادي أفيكم محمد ‏؟‏ فلم يجيبوه ‏.‏ فقال ‏:‏ أفيكم ابن أبي قحافة ‏؟‏ فلم يجبيبوه‏ .‏ فقال ‏:‏ أفيكم عمر بن الخطاب‏ ؟‏ فلم يجيبوه ـ وكان النبي(صلى الله عليه وسلم) منعهم من الإجابة ـ ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة لعلمه وعلم قومه أن قيام الإسلام بهم ‏.‏ فقال‏ :‏ أما هؤلاء فقد كفيتموهم ، فلم يملك عمر نفسه أن قال ‏:‏ يا عدو الله ، إن الذين ذكرتهم أحياء ، وقد أبقى الله ما يسوءك ‏.‏

    فقال ‏:‏ قد كان فيكم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني ‏.

    ثم قال ‏:‏ أعْلِ هُبَل‏.‏

    فقال النبي(صلى الله عليه وسلم)‏:‏ ‏(‏ ألا تجيبونه ‏؟ ‏‏)‏ فقالوا ‏: ‏فما نقول‏ ؟‏ قال ‏:‏ ‏( ‏قولوا ‏:‏ الله أعلى وأجل‏ ) ‏‏.‏

    ثم قال‏ :‏ لنا العُزَّى ولا عزى لكم ‏.‏

    فقال النبي(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏( ‏ألا تجيبونه ‏؟ ‏‏)‏ قالوا ‏:‏ ما نقول ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏( ‏قولوا ‏: ‏الله مولانا ، ولا مولي لكم‏ )‏ ‏.‏

    ثم قال أبو سفيان ‏:‏ أنْعَمْتَ فَعَال ، يوم بيوم بدر، والحرب سِجَال ‏.‏

    فأجابه عمر ، وقال ‏:‏ لا سواء ، قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار‏ .‏

    ثم قال أبو سفيان‏ :‏ هلم إلى يا عمر، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏( ‏ائته فانظر ما شأنه ‏؟ ‏‏)‏ فجاءه ،

    فقال له أبو سفيان ‏:‏ أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمداً‏ ؟‏ قال عمر ‏:‏ اللّهم لا‏ .‏ وإنه ليستمع كلامك الآن ‏.‏ قال ‏:‏ أنت أصدق عندي من ابن قَمِئَة وأبر ‏.

    مواعدة التلاقي في بدر


    قال ابن إسحاق‏:‏ ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى ‏:‏ إن موعدكم بدر العام القابل ‏.

    ‏فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) لرجل من أصحابه ‏:‏ ‏(‏ قل‏ :‏ نعم ، هو بيننا وبينك موعد‏ )‏‏ .‏



    التثبت من موقف المشركين


    ثم بعث رسول الله(صلى الله عليه وسلم) علي بن أبي طالب ، فقال‏ :‏ "‏اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون‏ ؟‏ وما يريدون ‏؟‏ فإن كانوا قد جَنَبُوا الخيل ، وامْتَطُوا الإبل ، فإنهم يريدون مكة ، وإن كانوا قد ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة‏ ،‏ والذي نفسي بيده، لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ، ثم لأناجزنهم "‏‏.‏ قال علي ‏:‏ فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون ، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل ، ووَجَّهُوا إلى مكة ‏.‏

    تفقد القتلى والجرحى


    وفرغ الناس لتفقد القتلى والجرحى بعد منصرف قريش ‏.‏ قال زيد بن ثابت‏ :‏ بعثني رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يوم أحد أطلب سعد بن الربيع ‏.‏ فقال لي ‏:‏ ‏( ‏إن رأيته فأقرئه مني السلام ، وقل له ‏:‏ يقول لك رسول الله(صلى الله عليه وسلم) :‏ كيف تجدك ‏؟ ‏‏)‏ قال ‏:‏ فجعلت أطوف بين القتلى ، فأتيته وهو بآخر رمق ، فيه سبعون ضربة ، ما بين طعنة برمح ، وضربة بسيف ، ورمية بسهم ، فقلت ‏:‏ يا سعد ، إن رسول الله يقرأ عليك السلام ، ويقول لك ‏:‏ أخبرني كيف تجدك ‏؟‏ فقال ‏:‏ وعلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) السلام ، قل له : يا رسول الله ، أجد ريح الجنة ، وقل لقومي الأنصار ‏:‏ لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وفيكم عين تطرف ، وفاضت نفسه من وقته ‏.‏

    ووجدوا في الجرحى الأُصَيرِِم ـ عمرو بن ثابت ـ وبه رمق يسير ، وكانوا من قبل يعرضون عليه الإسلام فيأباه ، فقالوا‏ :‏ إن هذا الأصيرم ما جاء به ‏؟‏ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر ، ثم سألوه ‏:‏ ما الذي جاء بك ، أحَدَبٌ على قومك ، أم رغبة في الإسلام‏ ؟‏ فقال ‏:‏ بل رغبة في الإسلام ، آمنت بالله ورسوله ، ثم قاتلت مع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حتى أصابني ما ترون ، ومات من وقته ، فذكروه لرسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فقال‏ :‏ ‏(‏ هو من أهل الجنة ‏) ‏‏.‏ قال أبو هريرة‏ :‏ ولم يُصَلِّ لله صلاة قط ‏.‏

    ووجدوا في الجرحى قُزْمَان ـ وكان قد قاتل قتال الأبطال ، قتل وحده سبعة أو ثمانية من المشركين ـ وجدوه قد أثبتته الجراحة ، فاحتملوه إلى دار بني ظَفَر ، وبشره المسلمون فقال ‏:‏ والله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي ، ولولا ذلك ما قاتلت ، فلما اشتد به الجراح نحر نفسه ‏.‏ وكان رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يقول ـ إذا ذكر له ‏:‏ ‏( ‏إنه من أهل النار ‏)‏ ـ وهذا هو مصير المقاتلين في سبيل الوطنية أو في أي سبيل سوي إعلاء كلمة الله ، وإن قاتلوا تحت لواء الإسلام ، بل وفي جيش الرسول والصحابة‏.

    وعلى عكس من هذا كان في القتلى رجل من يهود بني ثعلبة ، قال لقومه ‏:‏ يا معشر يهود ، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم حق ‏. ‏قالوا ‏: ‏إن اليوم يوم السبت‏ .‏ قال ‏:‏لا سبت لكم ‏. ‏فأخذ سيفه وعدته ، وقال‏:‏ إن أصبت فمالي لمحمد ‏.‏ يصنع فيه ما شاء ، ثم غدا فقاتل حتى قتل ‏. ‏فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) :‏ ‏( ‏مُخَيرِيق خير يهود‏ ) ‏‏.

    جمع الشهداء ودفنهم


    وأشرف رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على الشهداء فقال ‏:‏ ‏" ‏أنا شهيد على هؤلاء ، إنه ما من جريح يُجْرَح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة ، يَدْمَي جُرْحُه ، اللون لون الدم ، والريح ريح المِسْك‏ "‏ ‏.‏

    وكان أناس من الصحابة قد نقلوا قتلاهم إلى المدينة فأمر أن يردوهم ، فيدفنوهم في مضاجعهم وألا يغسلوا ، وأن يدفنوا كما هم بثيابهم بعد نزع الحديد والجلود ‏.‏ وكان يدفن الاثنين والثلاثة في القبر الواحد ، ويجمع بين الرجلين في ثوب واحد ، ويقول ‏:‏ ‏" ‏أيهم أكثر أَخْذًا للقرآن‏ ؟ "‏ فإذا أشاروا إلى الرجل قدمه في اللحد ، وقال ‏:‏ "‏أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة ‏"‏ ‏.‏

    ودفن عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة ‏.‏

    وفقدوا نعش حنظلة ، فتفقدوه فوجدوه في ناحية فوق الأرض يقطر منه الماء ، فأخبر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أصحابه أن الملائكة تغسله ، ثم قال‏ :‏ ‏( ‏سلوا أهله ما شأنه ‏؟ ‏‏)‏ فسألوا امرأته ، فأخبرتهم الخبر‏ . ‏ومن هنا سمي حنظلة ‏:‏ غسيل الملائكة.

    ولما رأى ما بحمزة ـ عمه وأخيه من الرضاعة ـ اشتد حزنه ، وجاءت عمته صفية تريد أن تنظر أخاها حمزة ، فأمر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ابنها الزبير أن يصرفها ، لا ترى ما بأخيها ، فقالت‏‏ ولم ‏؟‏ وقد بلغني أن قد مُثِّلَ بأخي ، وذلك في الله ، فما أرضانا بما كان من ذلك ، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله ، فأتته فنظرت إليه ، فصلت عليه ـ دعت له ـ واسترجعت واستغفرت له ‏.‏ ثم أمر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بدفنه مع عبد الله بن جحش ـ وكان ابن أخته ، وأخاه من الرضاعة‏ .‏

    قال ابن مسعود ‏:‏ ما رأينا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) باكياً قط أشد من بكائه على حمزة بن عبد المطلب ‏. ‏وضعه في القبلة ، ثم وقف على جنازته وانتحب حتى نَشَع من البكاء ـ والنشع ‏:‏ الشهيق ‏.‏

    وكان منظر الشهداء مريعاً جداً يفتت الأكباد ‏.‏ قال خباب‏ :‏ إن حمزة لم يوجد له كفن إلا بردة مَلْحَاء ، إذا جعلت على رأسه قَلَصَت عن قدميه ، وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه ، حتى مدت على رأسه ، وجعل على قدميه الإِذْخَر ‏.‏

    وقال عبد الرحمن بن عوف‏ :‏ قتل مصعب بن عمير وهو خير مني ، كفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه ، وإن غطي رجلاه بدا رأسه ، وروي مثل ذلك عن خباب ، وفيه‏ :‏ فقال لنا النبي(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ "‏غطوا بها رأسه ، واجعلوا على رجليه الإذخر "‏‏.‏

    الرسول(صلى الله عليه وسلم) يثني على ربه عز وجل ويدعوه


    روى الإمام أحمد ‏:‏ لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون ، قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏" ‏استووا حتى أثني على ربي عز وجل ‏"‏ ، فصاروا خلفه صفوفاً ، فقال ‏:‏

    ‏" ‏اللهم لك الحمد كله ، اللهم لا قابض لما بسطت ، ولا باسط لما قبضت ، ولا هادي لمن أضللت ، ولا مضل لمن هديت ، ولا معطي لما منعت ، ولا مانع لما أعطيت ، ولا مقرب لما باعدت ، ولا مبعد لما قربت ‏.‏ اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك ‏‏.‏
    ‏اللهم إني أسألك النعيم المقيم ، الذي لا يحُول ولا يزول ‏.‏ اللهم إني أسألك العون يوم العيلة ، والأمن يوم الخوف ‏.‏ اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا ‏.‏ اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين ‏.‏ اللهم توفنا مسلمين ، وأحينا مسلمين ، وألحقنا بالصالحين ، غير خزايا ولا مفتونين‏ .‏ اللّهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ، ويصدون عن سبيلك ، واجعل عليهم رجزك وعذابك ‏.‏ اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب ، إله الحق "‏‏.‏



    الرجوع إلى المدينة ونوادر الحب والتفاني


    ولما فرغ رسول الله من دفن الشهداء والثناء على الله والتضرع إليه ، انصرف راجعاً إلى المدينة ، وقد ظهرت له نوادر الحب والتفاني من المؤمنات الصادقات ، كما ظهرت من المؤمنين في أثناء المعركة ‏.‏

    لقيته في الطريق حَمْنَة بنت جحش ، فَنُعِي إليها أخوها عبد الله بن جحش فاسترجعت واستغفرت له ، ثم نعي لها خالها حمزة بن عبد المطلب ، فاسترجعت واستغفرت ، ثم نعي لها زوجها مصعب بن عمير ، فصاحت وولوت ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ "‏إن زوج المرأة منها لبِمَكان "‏ ‏.‏

    ومر بامرأة من بني دينار ، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها بأحد ، فلما نعوا لها قالت ‏:‏ فما فعل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏؟‏ قالوا‏ :‏ خيراً يا أم فلان ، هو بحمد الله كما تحبين ، قالت ‏:‏ أرونيه حتى أنظر إليه ، فأشير إليها حتى إذا رأته قالت ‏:‏ كل مصيبة بعدك جَلَلٌ ـ تريد صغيرة ‏.‏

    وجاءت إليه أم سعد بن معاذ تعدو ، وسعد آخذ بلجام فرسه ، فقال ‏:‏ يا رسول الله ، أمي ، فقال ‏:‏ "‏مرحباً بها "‏، ووقف لها ، فلما دنت عزاها بابنها عمرو بن معاذ ‏.‏ فقالت ‏:‏ أما إذ رأيتك سالماً فقد اشتويت المصيبة ـ أي استقللتها ـ ثم دعا لأهل من قتل بأحد ، وقال ‏:‏ ‏" ‏يا أم سعد ، أبشري وبشري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعاً ، وقد شفعوا في أهلهم جميعاً‏ "‏‏.‏ قالت ‏:‏ رضينا يا رسول الله ، ومن يبكي عليهم بعد هذا‏ ؟‏ ثم قالت ‏:‏ يا رسول الله ، ادع لمن خلفوا منهم ، فقال ‏:‏ ‏" ‏اللّهم أذهب حزن قلوبهم ، واجبر مصيبتهم ، وأحسن الخَلفَ على من خُلِّفُوا‏ "‏ ‏.‏

    الرسول(صلى الله عليه وسلم) في المدينة


    وانتهى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) مساء ذلك اليوم ـ يوم السبت السابع من شهر شوال سنة 3هـ ـ إلى المدينة‏ .‏

    فلما انتهى إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة ، فقال ‏:‏ ‏( ‏اغسلي عن هذا دمه يا بنية ، فو الله لقد صدقني اليوم ‏)‏، وناولها على بن أبي طالب سيفه ، فقال ‏:‏ وهذا أيضاً فاغسلي عنه دمه ، فو الله لقد صدقني اليوم ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏" ‏لئن كنت صدقت القتال ، لقد صدق معك سهل بن حُنَيف وأبو دُجَانة‏ "‏ ‏.‏

    قتلى الفريقين


    اتفقت جل الروايات على أن قتلى المسلمين كانوا سبعين ، وكانت الأغلبية الساحقة من الأنصار ، فقد قتل منهم خمسة وستون رجلاً ، واحد وأربعون من الخزرج ، وأربعة وعشرون من الأوس ، وقتل رجل من اليهود‏ .‏

    وأما شهداء المهاجرين فكانوا أربعة فقط‏ .‏

    وأما قتلى المشركين فقد ذكر ابن إسحاق أنهم اثنان وعشرون قتيلاً ، ولكن الإحصاء الدقيق ـ بعد تعميق النظر في جميع تفاصيل المعركة التي ذكرها أهل المغازي والسير ، والتي تتضمن ذكر قتلى المشركين في مختلف مراحل القتال ـ يفيد أن عدد قتلى المشركين سبعة وثلاثون ، لا اثنان وعشرون ، والله أعلم ‏.

    حالة الطوارئ في المدينة


    بات المسلمون في المدينة ـ ليلة الأحد الثامن من شهر شوال سنة 3 هـ بعد الرجوع من معركة أحد ـ وهم في حالة الطوارئ ، باتوا ـ وقد أنهكهم التعب ، ونال منهم أي منال ـ يحرسون أنقاب المدينة ومداخلها ، ويحرسون قائدهم الأعلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) خاصة ، إذ كانت تتلاحقهم الشبهات من كل جانب‏ .‏




    غزوة حمراء الأسد




    وبات الرسول(صلى الله عليه وسلم) وهو يفكر في الموقف ، فقد كان يخاف أن المشركين إن فكروا في أنهم لم يستفيدوا شيئاً من النصر والغلبة التي كسبوها في ساحة القتال ، فلا بد من أن يندموا على ذلك ، ويرجعوا من الطريق لغزو المدينة مرة ثانية ، فصمم على أن يقوم بعملية مطاردة الجيش المكي ‏.‏

    قال أهل المغازي ما حاصله ‏:‏ إن النبي(صلى الله عليه وسلم) نادى في الناس ، وندبهم إلى المسير إلى لقاء العدو ـ وذلك صباح الغد من معركة أحد ، أي يوم الأحد الثامن من شهر شوال سنة 3 هـ ـ وقال ‏:‏ ‏( ‏لا يخرج معنا إلا من شهد القتال ‏) ‏، فقال له عبد الله بن أبي‏ :‏ أركب معك ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏( ‏لا ‏) ‏، واستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد ، والخوف المزيد ، وقالوا‏ :‏ سمعاً وطاعة ‏.‏ واستأذنه جابر بن عبد الله ، وقال ‏:‏ يا رسول الله ، إني أحب ألا تشهد مشهداً إلا كنت معك ، وإنما خلفني أبي على بناته فأذن لي أسير معك ، فأذن له ‏.‏

    وسار رسول الله(صلى الله عليه وسلم) والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد ، على بعد ثمانية أميال من المدينة ، فعسكروا هناك ‏.‏

    وهناك أقبل مَعْبَد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فأسلم ـ ويقال‏ :‏ بل كان على شركه ، ولكنه كان ناصحاً لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)لما كان بين خزاعة وبني هاشم من الحلف ـ فقال ‏:‏ يا محمد ، أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ، ولوددنا أن الله عافاك ‏.‏ فأمره رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أن يلحق أبا سفيان فَيُخَذِّلَه ‏.‏





    ولم يكن ما خافه رسول الله(صلى الله عليه وسلم) من تفكير المشركين في العودة إلى المدينة إلا حقاً ، فإنهم لما نزلوا بالروحاء على بعد ستة وثلاثين ميلاً من المدينة تلاوموا فيما بينهم ، قال بعضهم لبعض ‏: ‏لم تصنعوا شيئاً ، أصبتم شوكتهم وحدهم ، ثم تركتموهم ، وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم ، فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم ‏.‏

    ويبدو أن هذا الرأي جاء سطحياً ممن لم يكن يقدر قوة الفريقين ومعنوياتهم تقديراً صحيحاً ، ولذلك خالفهم زعيم مسئول ‏[‏ صفوان بن أمية ‏]‏ قائلاً‏ :‏ يا قوم ، لا تفعلوا فإني أخاف أن يجمع عليكم من تخلف من الخروج ـ أي من المسلمين في غزوة أحد ـ فارجعوا والدولة لكم ، فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم ‏.‏ إلا أن هذا الرأي رفض أمام رأي الأغلبية الساحقة ، وأجمع جيش مكة على المسير نحو المدينة ،‏ ولكن قبل أن يتحرك أبو سفيان بجيشه من مقره لحقه معبد بن أبي معبد الخزاعي ولم يكن يعرف أبو سفيان بإسلامه ، فقال ‏:‏ ما وراءك يا معبد ‏؟‏ فقال معبد ـ وقد شن عليه حرب أعصاب دعائية عنيفة‏ :‏ محمد قد خرج في أصحابه ، يطلبكم في جمع لم أر مثله قط ، يتحرقون عليكم تحرقاً ، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم ، وندموا على ما ضيعوا ، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط ‏.‏
    قال أبو سفيان‏ :‏ ويحك ، ما تقول ‏؟‏
    قال ‏:‏ والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل ـ أو ـ حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة‏ .‏
    فقال أبو سفيان‏ :‏ والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم‏ .‏
    قال ‏:‏ فلا تفعل ، فإني ناصح‏ .‏

    وحينئذ انهارت عزائم الجيش المكي وأخذه الفزع والرعب ، فلم ير العافية إلا في مواصلة الانسحاب والرجوع إلى مكة ، بيد أن أبا سفيان قام بحرب أعصاب دعائية ضد الجيش الإسلامي ، لعله ينجح في كف هذا الجيش عن مواصلة المطاردة ، وطبعاً فهو ينجح في تجنب لقائه ‏.‏ فقد مر به ركب من عبد القيس يريد المدينة ، فقال ‏:‏ هل أنتم مبلغون عني محمداً رسالة ، وأوقر لكم راحلتكم هذه زبيبًا بعكاظ إذا أتيتم إلى مكة ‏؟‏
    قالوا‏ :‏ نعم ‏.‏
    قال‏ :‏ فأبلغوا محمداً أنا قد أجمعنا الكرة ، لنستأصله ونستأصل أصحابه‏ .‏

    فمر الركب برسول الله(صلى الله عليه وسلم) وأصحابه ، وهم بحمراء الأسد ، فأخبرهم بالذي قال له أبو سفيان ، وقالوا‏ :‏ ‏" إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ‏ "‏ ـ أي زاد المسلمين قولهم ذلك ـ ‏" ‏إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ‏ "‏‏[‏آل عمران‏:‏ 173، 174‏]‏‏ .‏

    أقام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بحمراء الأسد ـ بعد مقدمه يوم الأحد ـ الإثنين والثلاثاء والأربعاء ـ 9، 10، 11 شوال سنة 3 هـ ـ ثم رجع إلى المدينة ، وأخذ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) قبل الرجوع إلى المدينة أبا عَزَّة الجمحي ـ وهو الذي كان قد منّ عليه من أسارى بدر ، لفقره وكثرة بناته ، على ألا يظاهر عليه أحداً ، ولكنه نكث وغدر فحرض الناس بشعره على النبي(صلى الله عليه وسلم) والمسلمين ، كما أسلفنا ، وخرج لمقاتلتهم في أحد ـ فلما أخذه رسول الله(صلى الله عليه وسلم) قال ‏:‏ يا محمد أقلني ، وامنن علي ، ودعني لبناتي ، وأعطيك عهداً ألا أعود لمثل ما فعلت ، فقال صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏" ‏لا تمسح عارضيك بمكة بعدها وتقول‏:‏ خدعت محمداً مرتين، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ‏" ‏، ثم أمر الزبير أو عاصم بن ثابت فضرب عنقه ‏.‏

    كما حكم بالإعدام في جاسوس من جواسيس مكة ، وهو معاوية بن المغيرة بن أبي العاص جد عبد الملك بن مروان لأم

      الوقت/التاريخ الآن هو السبت نوفمبر 23, 2024 11:33 pm