مقدمة
كانت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مصيبة عظيمة، وكان لها رد فعل كبير على الصحابة، وتم اختيار أبي بكر الصديق خليفة للمسلمين، وهو أول خليفة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، واجتمع المسلمون على مبايعته، وعلى تأييده، وأصبح رضي الله عنه خليفة رسول الله بعد وفاة الرسول في نفس الليلة، ففي فجر الثلاثاء الثالث عشر من ربيع الأول بويع أبو بكر الصديق خليفة للمسلمين رضي الله عنه وأرضاه.
وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة حدثت في الجزيرة العربية فتنه من أشد الفتن التي مرت على الأمة الإسلامية، كأن الله سبحانه وتعالى يبتلي هؤلاء القوم، ابتلاهم أولا بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم بهذا الأمر الشديد، والحمد لله فقد صبروا على هذا الابتلاء العظيم...
فتنة الردة
ما إن علمت الجزيرة العربية بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى نقضت عهدها، وتركت دينها، ولم يثبت من الجزيرة العربية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ثلاث مدن، وقرية واحدة.
فارتدت قبائل بني حنيفة، وبني أسد، وعبس، وذبيان، وقضاعة، وكندة، وتميم، وقبائل اليمن، وعمان، والبحرين، ومهرة، وتهامة، وغير ذلك من قبائل، ولم يبق على الإسلام إلا المدينة المنورة، ومكة، والطائف، وقرية جُوَاثى بشرق الجزيرة العربية، وحتى هذه الأماكن باستثناء المدينة المنورة كانت على شفا حفرة الردة، لولا أن ثبتهم الله عز وجل برجال صادقين فيهم،
فكانت مكة على خطر عظيم، ولقد راودتها فكرة الردة، وتكلم الناس في الردة، حتى هَمّ كثير منهم بها، فقيض لهم الله من وقف فيهم خطيبًا، وهو سهيل بن عمرو، وكان حديث عهد بالإسلام، فقد أسلم في فتح مكة، ولما أُسِر هذا الرجل في غزوة بدر أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن ينزع ثَنِيَّتَيْه حتى لا يقف خطيبًا، يهاجم النبي صلى الله عليه وسلم، كما كان يفعل، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:
يَا عُمَرُ، دَعْهُ، فَلَعَلَّهُ يَقِفُ مَوْقِفًا يُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
فلما كانت الردة، وقف هذا الرجل وقال لهم خطبة عظيمة في الكعبة يحض الناس فيها على عدم الارتداد، والتمسك بحبل الله، وحبل رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال لهم:
لقد كنتم آخر من أسلم، فلا تكونوا أول من غَيّر وبدّل.
قال: إن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي، وإن الله تعالى قد قال:
[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ] {آل عمران:144} .
نفس الآية التي قرأها أبو بكر الصديق في المدينة قرأها هو في مكة، فثَبَت الناس، ولم يرتدوا، فكل هؤلاء في ميزان حسنات هذا الرجل.
أما المدينة الثالثة التي ثبتت ولم ترتد، وهى الطائف، وهذا شيء غريب جدا، فالطائف كانت قاسية على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذهب إليها في العام العاشر أو الحادي عشر من البعثة، بعد وفاة السيدة خديجة، ووفاة عمه أبي طالب، فقد ذهب إلى الطائف راجيًا منها النصرة، فوجد منها أبشع الردود، وقذفوه بالحجارة حتى سالت الدماء من قدميه الشريفة صلى الله عليه وسلم، ولقد أبى الرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطيع ملك الجبال في إطباق عليهم الأخشبين- والأخشبان: جبلان عظيمان- وقال: عَسَى اللَّهُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا.
فكما تمنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبتوا على الإيمان، وجعل الله من أصلابهم من يؤمن بالله، ومن يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وثبتت مدينة الطائف.
فهذه هي المدن الثلاث التي ثبتت على الإسلام، أما القرية فهي قرية صغيرة تسمى جُوَاثى في منطقة البحرين، وما زالت موجودة، ومعروفة باسمها، فمنطقة البحرين ارتدت كلها، وليس المقصود بمنطقة البحرين دولة البحرين الموجودة الآن، ولكن المقصود هو كل شرق الجزيرة العريبة، فهذه المنطقة كلها ارتدت، ولم يبق فيها على الإسلام، إلا جُوَاثى، وبفضل الله تعالى قيض الله لذلك رجل يُدعى الجارود بن يعلى، هذا الرجل قام، فخطب في الناس خطبة يدعوهم للإيمان بالله وبرسوله، حيا أو ميتا، وثبت الناس بخطبة الجارود بن يعلى، وكلهم إن شاء الله في ميزان حسناته أيضا، فثبتت هذه القرية الصغيرة، ولما ثبتت على الإيمان حاصرتها قوى البغي والردة من البحرين، ومنعوا عنها الطعام حتى كادت أن تهلك إلى أن أذن الله لها في النجاة.
نِعْمَة الصِّدِّيق رضي الله عنه
كان من الممكن أن تكون لهذه الفتنة العظيمة آثار وخيمة، لولا أن الله عز وجل مَنّ على الأمة في ذلك الوقت بنعمة عظيمة هائلة، تلك هي نعمة الصديق رضي الله عنه.
لقد كان الصديق رضي الله عنه فعلًا نعمة من الله عزّ وجل أيد بها هذه الأمة، وحفظ به الدين والقرآن، وقمع به المشركين والمرتدين.
وحقًا فهذا رجل يوزن بأمة كما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم كما روى الإمام أحمد في مسنده عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ غَدَاةٍ، بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَقَالَ:
رَأَيْتُ قُبَيْلَ الْفَجْرِ كَأَنِّي أُعْطِيتُ الْمَقَالِيدَ، وَالْمَوَازِينَ، فَأَمَّا الْمَقَالِيدُ فَهَذِهِ الْمَفَاتِيحُ، وَأَمَّا الْمَوَازِينُ فَهِيَ الَّتِي تَزِنُونَ بِهَا، فَوُضِعْتُ فِي كِفَّةٍ، وَوُضِعَتْ أُمَّتِي فِي كِفَّةٍ، فَوُزِنْتُ بِهِمْ، فَرَجَحْتُ، ثُمَّ جِيءَ بِأَبِي بَكْرٍ، فَوُزِنَ بِهِمْ فَوَزَنَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُمَرَ فَوُزِنَ فَوَزَنَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُثْمَانَ فَوُزِنَ بِهِمْ، ثُمَّ رُفِعَتْ.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه يصف هذا الموقف المتأزم:
والله الذي لا إله إلا هو، لولا أن أبا بكر استخلف ما عُبِد الله.
ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة، فقيل له:
مه يا أبا هريرة؟
فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام، فلما نزل بذي خشب قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتدت العرب حول المدينة، فاجتمع إليه أصحاب رسول الله، فقالوا:
يا أبا بكر رد هؤلاء، تُوَجّه هؤلاء إلى الروم، وقد ارتدت العرب حول المدينة؟
فقال: والذي لا إله غيره، لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رددت جيشا وجهه رسول الله، ولا حللت لواء عقده رسول الله.
وليس هذا الكلام مبالغة أبدًا من أبي هريرة رضي الله عنه، فالصديق فعلًا عظيم، وتظهر عظمته بصورة أكبر عندما نعلم أن هذا الموقف كان بعد أيام قليلة جدًا من استلامه للحكم، ومن المعتاد أن قائد الدولة يحتاج إلى فترة للتأقلم على الوضع الجديد، ولاكتساب الخبرة، ولكن الصديق رضي الله عنه أدار الأمور بحزم وكفاءة، وكأنه يحكم الدولة منذ سنوات وسنوات.
ولا ننسى أن مصيبة الردة هذه جاءت بعد أيام قلائل من مصيبة أخرى كبيرة، هي مصيبة وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن مصاب الصديق كان كبيرًا، فهو أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، و أشدهم حزنًا على فراقه، ولكن الله عز وجل رزقه نعمة الثبات، والثبات نعمة جليلة لا توهب إلا لمن كان مؤمنًا حقًا.
[يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ] {إبراهيم:27} .
كان ارتداد الجزيرة العربية على درجات فمن العرب من منع الزكاة، وادعى أنها كانت تُعطى لرسول الله صلى الله عليه وسلم شخصيًا، فلما مات الرسول صلى الله عليه وسلم سقطت عنهم الزكاة بزعمهم.
وكانوا قد تأولوا قول الله تعالى:
[خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] { التوبة:103} .
وقالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المأمور بأَخْذ الصدقة، وأَخْذ الزكاة، وهو الذي كان يصلي عليهم، وبموته لم تعد هناك صلاة عليهم.
وهذا مفهوم مغلوط سطحي مدفوع بحب الإنسان للمال، ورغبته في الكَنْز والتملك، وليس مبنيًا أبدًا على علم أو على اجتهاد صحيح مقبول؛ لأن الزكاة أصل من الأصول الإسلامية، وهي من المعلوم من الدين بالضرورة، ولها نصابها المعروف، ولها مصارفها المحددة،، وجمعت مع الصلاة في كتاب الله عشرات المرات، ولذلك اعتبر من ينكر الزكاة كأصل من الأصول الإسلامية المعتبرة مرتدًا خارجًا عن الدين، مفارقًا للجماعة، سواء بعد ذلك اعترف بالصلاة، أو بالصيام، أو بغيرها من الأحكام أم لم يعترف.
وهذا بالطبع غير من عَلِم أن الزكاة حق، ولكن غلبت نفسه الضعيفة على عدم إخراجها، ولكن دون أن يستحل ذلك، فهذا لا يعده عامة الفقهاء مرتدًا، إنما يعدونه فاسقًا، يحتاج إلى إقامة حد، أو تعزير، بحسب ما يراه الحاكم.
وقد وقفت أكثر من قبيلة عربية في ذلك الوقت هذا الموقف الخبيث، فأنكرت الزكاة أصلًا، واشترطوا أن يقبلوا الإسلام بدون زكاة،، وبذلك أخذوا حكم المرتدين.
ومن العرب من ترك الإسلام كله، وعاد إلى ما كان يعبد من أصنام، وقالوا مقالة تعبر عن جهل عميق بحقيقة النبوة، إذ قالوا:
لو كان محمد نبيًا ما مات.
رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعلن مرة واحدة في حياته أنه لن يموت، بل كان دائم التذكير بأنه بشر يجري عليه ما يجري على عامة البشر، والفارق الوحيد بينه وبين عامة الناس أنه يأتيه الوحي من السماء.
قال تعالى يعلم نبيه كيف يخاطب الناس:
[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ] {الكهف:110} .
بل صرح رب العالمين في كتابه الكريم في أكثر من موضع أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيموت كعامة الخلق فقال تعالى:
[إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ] {الزُّمر:30} .
وقال:
[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ] {آل عمران:144} .
وهكذا فحجة ترك الإسلام لأجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات حجة واهية، ولكنها وجدت قبولًا عند بعض القبائل.
ومن العرب من لم يكتف بالردة، ويترك المسلمين في شأنهم، بل انقلبوا على المسلمين الذين لم يرتدوا، فقتلوهم، وذبحوهم، وفعلوا بهم أشنع المنكرات.
ومن العرب من سارع بادعاء النبوة، وكلهم يطمع في أن يصل إلى ما وصل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من سيطرة كاملة على جزيرة العرب، و قيادة كل القبائل، فزعم بعض القوم أنهم يأتيهم الملائكة من السماء توحي إليهم، وأنهم أنبياء، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيًا، ومن أشهر هؤلاء مسيلمة الحنفي الكذاب، والأسود العنسي، وطليحة بن خويلد، وسجاح، وغيرهم.
وإن كان بعضهم لم ينكروا نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن قالوا نحن أنبياء مثله، وشركاء في هذا الأمر، ومنهم من قال نحن أنبياء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهكذا تعددت أنواع الردة، ولكنهم في النهاية فريق واحد اسمه فريق المرتدين، تميزوا بوضوح عن المسلمين الذين كانوا قلة قليلة مبعثرة في ثلاث مدن وقرية، وبعض الأفراد في بعض القبائل.
لقد كانت أزمة طاحنة حقًا.
أسباب حدوث الردة
قد يتساءل البعض سؤالًا هامًا:
لماذا حدثت الردة بهذه الصورة المروعة؟!
لماذا يبقى القليل على الإسلام، و يعرض الكثير عنه؟!
أليس الإسلام واضحًا نقيًا معجزًا؟
أليس البديل الذي أتى به من ادعى النبوة بديلا هزيلًا واهنًا، لا تُقره لغة، ولا يقتنع به عاقل؟
وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا حدثت الردة؟!
بادئ ذي بدء هناك قاعدة أصيلة، وسُنة محكمة لا خلف لها حكمت الأحداث في تلك الأيام، وتحكم الأحداث إلى يوم القيامة، تلك هي سُنة حرب الحق و الباطل.
ما دام هناك بشر على الأرض، فسيكون هناك أهل خير، وسيكون هناك أهل شر، وسيكون هناك حق، وسيكون هناك باطل.
ومن السنن كذلك أن أهل الباطل كثرة، وأن أهل الحق قلة، تواترت على ذلك الآيات، والأحاديث، ورأينا ذلك في الواقع مرات ومرات.
القليل الذي يكبت جماح هواه ليسير في طريق الحق، والكثير الذي يعبد هواه مهما قاده إلى المهالك.
[وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ] {الأنعام:116} .
[وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ] {يوسف:103}.
هذه قاعدة أصيلة تحكم الدنيا، فالفاسدين أكبر بكثير من الصالحين، لكن كان البعض يتوقع أن تكون الردة ليست بهذا الحجم، لكون الناس قريبي عهد برسول الله صلى الله عليه وسلم، بمنهجه القويم، وتربيته العظيمة، وقيادته المبهرة، وإعجازه الواضح.
فلماذا ؟!
الواقع أن هناك أعدادًا ضخمة من العرب دخلوا في الإسلام في العامين الأخيرين من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيما عرف في التاريخ بالوفود، ولم يدخل هؤلاء في الإسلام إلا انبهارًا بسيطرة المسلمين على الجزيرة العربية، وانتصارهم على قريش أكبر القبائل العربية، ثم على هوازن وثقيف، وغيرها من القبائل العظمى في الجزيرة، فجاء الناس أفواجًا يدخلون في دين الله عز وجل، ولكن ليس كلهم عن اقتناع، فمنهم من جاء رغبًا في المال، والغنائم، والارتباط بالقوة الأولى الجديدة في الجزيرة، ومنهم من جاء رهبًا من قوة المسلمين، ومنهم من جاء لا رغبًا ولا رهبًا، ولكن اتباعًا لزعمائهم وقادتهم، فساقهم زعماؤهم كالقطيع فدخلوا في دين لا يعرفون حدوده، ولا فروضه، ولا تكاليفه، ولم يفقهوا حقيقة الرسول صلى الله عليه وسلم وحقيقة الرسالة، ولم يعيشوا مع القرآن، ولا مع السنة، بل إن الكثير من العرب الذين أسلموا في السنتين التاسعة والعاشرة من الهجرة لم يروا الرسول صلى الله عليه وسلم أصلًا، فلما مات الرسول صلى الله عليه وسلم اعتقد الجميع أن الدولة الإسلامية انهارت بموت من أسسها كما تنهار الكثير من الأعمال المعتمدة على شخص بعينه إذا غاب هذه الشخص، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد أسس جيلًا كاملًا فَقِه معنى الإسلام الحقيقي، وعلم هذا الجيل أن استمرارية الإسلام في الأرض ليست مرتبطة بأشخاص، بل هي طبيعة ذاتية في هذا الدين فهو لا يموت، ولا يندثر، ولا ينهار، قد يتعرض لأزمات، ولكن يخرج منها حتما، لأنه دين الله عز وجل، والله عز وجل ناصر دينه.
قال تعالى:
[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] {التوبة:33} .
كانت هذه هي ظروف الأعراب حول المدينة، ولم تكن الظروف فقط هي العامل المؤثر في سرعة ارتدادهم، بل كانت طبيعتهم الغليظة، والجافية سببًا في عدم قبول فكرة الإسلام الرقيقة الطيبة.
قال الله تعالى يصف حالة هؤلاء الأعراب:
[الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] {التوبة:97}.
هذا وصف رب العالمين لطبيعة هؤلاء الأقوام.
وفوق ذلك- كما ذكرت- هم لم يأخذوا الفرصة كاملة، والوقت المناسب لفقه حقيقة الإيمان، فدخلوا في الإسلام، ولم يؤمنوا حقيقته بعد.
قال تعالى يصف حالهم:
[قَالَتِ الأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {الحجرات:14} .
فهم دخلوا في الإسلام بأجسادهم، وألسنتهم، ولكن القلوب ما زالت بعيدة عن حقيقه الإيمان، ولذلك فليس مستغربًا أن يرتدوا عند أول شعور يراودهم بضعف الدولة الإسلامية، وقلة حيلتها.
ولم تكن المشكلة فقط في عوام الأعراب، ولكن كانت أيضا في زعمائهم، فالقبائل العربية ما تعودت مطلقًا على القيادة الجماعية، بل كان كل زعيم قبيلة زعيمًا في مكانه وقبيلته، يأمر فيطاع، ويشير، فلا راد لكلمته، وفجأة ضاعت زعاماتهم، وذابت في الدولة الإسلامية، ولم يقبل غالبهم بذلك، فلما مات رسول صلي الله عليه وسلم بحث كل منهم عن زعامته المفقودة، فكانوا أقرب ما يكون إلى عبد الله بن أُبَي ابن سلول الذي كان سينصب زعيمًا للمدينة المنورة قبل قدوم الرسول صلي الله عليه وسلم، فلما جاء الرسول صلي الله عليه وسلم ضاعت زعامته، فظل مع كونه في الظاهر مسلمًا يتحين الفرصة للقضاء علي الإسلام والمسلمين، وأمثال ابن سلول في العرب كثيرة، هناك مسيلمة الحنفي الكذاب، وطليحة بن خويلد الأسدي، والأسود العنسي، وغيرهم، وهؤلاء لم ينسوا زعامتهم أبدًا، ثم مات رسول صلي الله علية وسلم، وليس هذا فقط، بل تولى حكم الدولة الإسلامية أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو من أضعف بطون قريش، وهو بطن بني تيم، فوجد هؤلاء الزعماء في أنفسهم قوة للخروج عن الدولة الإسلامية، لقد كان خروجًا سياسيًا في المقام الأول، لم يكن أبدًا اقتناعًا بمبادئ الجاهلية، ورغبة في عبادة هبل، واللات، والعزى، بدلًا من عبادة رب العالمين، ولم تكن أبدًا اقتناعًا بنبوة أولئك الذين ادعوا النبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كان الأمر سياسيًا بحتًا.
حب الكرسي والزعامة آخر ما يخرج من قلب الإنسان، وكان هؤلاء الزعماء من الذكاء بحيث لم يطعنوا في الإسلام لعلمهم أنهم لا طاقة لهم بالإتيان بمثله، ولكنهم ضغطوا على معنى خطير يشغل بال كل عربي في ذلك الوقت، وهو معني القبلية، وهو معنى خطير حقا، وقاومه الإسلام بكل ضراوة، فالإسلام ليس دين قريش حتى تقف في مواجهتها قبيلة أخرى، إنما هو دين الله عز وجل لكل العباد من كل القبائل، والألوان، والأجناس.
لكن لقرب العهد بالجاهلية والقبلية دخل في روع الأعراب عن طريق زعمائهم أن قبائلهم ليست أقل من قريش، ولا يصح أن تخضع لها، فالحرب- في تصويرهم- حرب قبائل، ومن لم يبحث له عن مكان الآن، فلن يجد مكانًا في المستقبل.
وباعت الأعراب كل شيء في سبيل القبيلة، عبر عن ذلك أحد المرتدين من بني حنيفة التي ظهر فها مسيلمة الكذاب يدعي النبوة، فقال في صراحة:
والله أعلم أن محمدًا صادقًا، وأن مسيلمة كاذب، ولكن كاذب ربيعة أحب إليّ من صادق مضر.
هكذا في صراحة، أو قل في وقاحة.
فليس الحق هو الذي يبحث عنه ليتبعه، وإنما هو يعبد هواه، وهواه في القبيله، فليتبع كذاب بني حنيفة، وليترك صادق مضر.
ومع ذلك فالصورة النهائية للوضع، هي حرب بين الحق والباطل، هي السنة الكونية الطبيعية جدًا، هي حرب بين الإسلام وأعداء الإسلام، بصرف النظر عن مسميات الأعداء، لقد كانت القبلية هي القناع الذي وقف وراءه أعداء الإسلام في ذلك الوقت لحرب الإسلام، أما الهدف العميق الأصيل، فهو حرب الإسلام ذاته، و دليل ذلك أن المرتدين قتلوا المسلمين في قبائلهم نفسها، لقد انقلب مسيلمة الكذاب الحنفي على المسلمين من بني حنفية، فقتلهم، وكذلك فعل طلحة، وفعل غيرهم.
الأقنعة تتبدل، والحرب ضد الإسلام مستمرة، إنها سُنة ثابثة.
[وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا] {البقرة:217} .
الأغلفة الخارجية، والأقنعة تختلف، وحرب الإسلام واحدة.
الأقنعة قد تكون قبلية، أو اهتمامات سياسة، أو أطماع اقتصادية، أو تنافس، أو أحقاد، أو أضغان.
كل هذا لا قيمة له في المضمون الحقيقي، والحرب في النهاية حرب الحق مع الباطل بكل صوره.
كانت الردة من أشد المواقف التي مرت بالأمة الإسلامية منذ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا، وما أحسب أن هناك ماهو أخطر منها في المستقبل، لقد كانت أزمة جعلت جيل الصحابة يعتقد أن القضية قد انتهت، والإسلام سيندثر، ولا أمل مطلقًا في النجاة، وعندما يعتقد جيل الصحابة الحكيم جدًا، والقوي جدًا هذا الاعتقاد، فاعلم أن الخطب عظيم، وأن المصيبة هائلة.
ولا تُقَارن فتنة الردة بما بعدها من فتن أبدًا، فلا فارس، ولا الروم، ولا التتار، ولا الصليبية، ولا من سبق، ولا من لحق، يقارن بهذه الأزمة الخطيرة أبدًا.
لقد كانت خطرًا داهمًا ليس على كيان الدولة الإسلامية فقط، ولكن على الإسلام نفسه كدين وكشريعة، فلو قدر لهذه الفتنة أن تستمر لتبدلت مفاهيم، وتغيرت تصورات، ولحُرّف الدين كما حُرّف قبل ذلك دين اليهود والنصارى.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها واصفة لهذا الحدث المروع:
لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم نجم النفاق، وارتدت العرب، واشرأبت اليهودية، والنصرانية، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية.
بعث أسامة وموقف الصحابة منه
أشار بعض الصحابة على أبي بكر بأن لا ينفذ بعث أسامة، ويظل هذا الجيش في المدينة ليحميها من المتربصين بها.
وكان الرسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوصى بإنفاذه قبل وفاته، وجهز الجيش، وخرج الجيش على مشارف المدينة، وعلم الجيش بمرض الرسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يخرجوا، فكان أول قرار يأخده في الخلافة، هو قرار إنفاذ بعث أسامة بن زيد، وكان صلى الله عليه وسلم قد أنفذ هذا البعث ليحارب الرومان في شمال الجزيرة العربية، وقبائل قضاعة الموجودة في شمال الجزيرة العربية، والجزيرة العربية كلها انقلبت، وكلها ارتدت عن دين الإسلام، وكلها تضع المدينة تحت المجهر، وكل الجزيرة العربية تتخطف وتتوعد المدينة، وهذا الجيش الخارج من المدينة، لم يكن موجها إلى من ارتدوا، ولكن كان موجهًا إلى الرومان، ولم يكن في منطقة قريبة من المدينة حتى يستطيع أن يأتي إليها إذا داهمها المرتدون، بل كان هذا الجيش خارجا إلى مشارف الشام، ومع ذلك أصر أبو بكر رضي الله عنه أن يُنفذ هذا الجيش مع كل ما يحيط بالمسلمين من خطورة.
وثار عليه بعض الصحابة، وكلموه في ذلك، فقال لهم كلمة تسجل بحروف من نور:
والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أن الطير تخطفنا، والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزن جيش أسامة.
فهذا ما أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم قبل وفاته، وبالفعل، يخرج جيش أسامة بن زيد، فتكلمه الصحابة في أمير الجيش، ويأتى له عمر بن الخطاب، ويقول:
لو اتخذت أميرًا غير أسامة بن زيد.
وكان سِنه يومئذ سبعة عشر عامًا، أو ثمان عشر عامًا، يطلب منه عمر أن يُنَصب أميرًا أكثر حكمة منه؛ لأن الأمر صعب، فيمسكه أبو بكر من لحيته ويهزه ويقول له:
ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، أمنع أميرا أمّره رسول الله عن إمارة جيشه. وكان قد نشب خلاف في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على إمارة أسامة بن زيد، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أصر على ذلك، فإذا كان هذا الإصرار، فكيف يغيره أبو بكر الصديق؟!
فأصر أن يكون أسامة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه هو الأمير.
ويخرج بعث أسامة بن زيد، والجزيرة العربية كلها متأججة في نار الردة، ويخرج البعث من المدينة، وفي الجيش عمر بن الخطاب تحت إمارة أسامة بن زيد، وأراد أبو بكر عمر بن الخطاب؛ ليسانده الرأي في المدينة في ذلك الوقت، فالموقف صعب، وهو الرجل الثاني بعد أبي بكر الصديق رضى لله عنه، فيخرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه يمشي، وأسامة بن زيد راكب على فرسه، وأبو بكر ماشيا بجواره، يخاطبه في ذلك، يقول له: لو أذنت لي في عمر بن الخطاب، أستعين برأيه في المدينة.
وأسامة يقول له:
يا أبا بكر، إما أن تركب، وإما أن أنزل.
فيصر رضي الله عنه على المشي، ويقول:
وما لي لا أُغَبّر قدماي في سبيل الله ساعة.
ويأخذ عمر بن الخطاب، ويرجع به إلى المدينة، ويخرج الجيش المسلم إلى مشارف الشام.
أثر إنفاذ بعث أسامة
لعلها حكمة أظهرها الله عز وجل من إصرار النبي صلى الله عليه وسلم على إنفاذ بعث أسامة، وتوفيق أبي بكر بإصراره على خروج الجيش كما أوصى بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، هذه الحكمة هي إرهاب القبائل المرتدة.
لما خرج الجيش إلى أطراف الشام فرت منه الجيوش الرومانية في هذه المنطقة، فلم يلق قتالا من الرومان، فوجد بعض القبائل في هذه المنطقة ارتدت، فقاتل كل هذه القبائل، وشتت شملها، وهزمها، وهربوا إلى منطقة تسمى دومة الجندل، ولكن أسامة بن زيد لم يكن مأمورا بقتال هذه القبائل، ولا تتبعها، فأكتفى، وعاد بسرعة إلى أبي بكر الصديق في المدينة ومعه الغنائم من هذه الموقعة، ومكث أسامة بن زيد في هذه الرحلة خمسة وثلاثين يومًا فقط، وهذا هو التقدير الأقرب، لكن هناك من يقول أن هذا البعث استغرق شهرين، لكن الأقرب ما ذكرنا.
خروج الجيش إلى شمال الجزيرة أحدث بكل القبائل العربية الموجودة في هذه المنطقة رهبة من المسلمين مما جعلهم يظنون أن للمسلمين قوة في المدينة، فمن المؤكد أن بالمدينة جيوش عظيمة جدا، وأن هذا جزء صغير من الجيوش، فكل القبائل المرتدة في هذه المنطقة ظنت هذا الظن، فلم يكن يمر جيش أسامة في منطقة إلا أرعبهم، فقررت عدم الهجوم على المدينة وإثار السلامة، لرعبهم من جيش أسامة بن زيد، وخوفا ممن في المدينة، مع أنه لم يكن هناك جيش بالمدينة، إلا أنها كانت حكمة من الله عز وجل ألهم بها نبيه، ووفق لها أبا بكر، فأُلْقي في قلوبهم الرعب، فكانت هذه فائدة عظيمة من خروج جيش أسامة بن زيد رضي الله عنه.
موقف الصحابة من الردة
يا أبا بكر أَغْلق عليك بابك، وليسعك بيتك، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين.
كانت هذه هي الكلمات التي واجه بها الصحابة رضى الله عنهم أبا بكر الصديق رضي الله عنه أول استلامه الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ووصلت الأنباء بارتداد العرب عن دين الإسلام.
لقد كان موقفًا صعبًا طاشت فيه عقول، وذهلت فيه ألباب، وكانت فتنة حقيقية تركت الحليم حيران، واعتقد بعض الصحابة أن هذه هي نهاية الدنيا، وفكر البعض في اعتزال الناس، وأن يعبد، ويجتهد في العبادة إلى أن يأتيه اليقين، ومنهم من فكر في الخروج إلى الصحراء.
وفي هذا الموقف اختار الصحابة جميعًا رأيًا، واختار الصديق رأيًا آخر، لقد رأى الصحابة أن الجزيرة العربية قد ارتدت بكاملها تقريبًا، ورأوا كذلك أن المدينة المنورة العاصمة أصبحت خالية تقريبًا من الجنود، وذلك عندما كان جيش أسامة في الشام، ورأوا كذلك أن هناك بعض القبائل القريبة من شمال المدينة قد أعلنت ردتها، وهي في ذات الوقت علمت بخروج جيش المدينة إلى الشام، وهذه القبائل ليست بسيطة، ويأتي على رأسها قبائل أسد، وفزارة، وعبس، وذبيان، وكانت هذه القبائل قد أرسلت رسولًا مرتدًا هو عيينة بن حصن الفزاري، ومعه الأقرع بن حابس؛ ليفاوضا المسلمين في المدينة في أن يقبل أبو بكر منهم الصلاة، ويرفع عنهم الزكاة، في مقابل أن يرفع المرتدون أيديهم عن المدينة.
لقد كان الموقف خطيرًا فعلًا، وكانت المدينة مهددة.
في هذا الجو المشحون جاء الصحابة إلى أبي بكر رضي الله عنهم يعرضون عليه قبول طرح عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، بل إعطاءهما بعض المال، وذلك لتحييدها، وتخفيف ضغط الأزمة، قال الصحابة رضي الله عنهم:
نرى أن نطعم الأقرع، وعيينة طعمة يرضيان بها، ويكفيانك مَن وراءهما، حتى يرجع إليك أسامة، وجيشه، ويشتد أمرك، فإنا اليوم قليل في كثير، ولا طاقة لنا بقتال العرب.
كان هذا رأي الصحابة، مساومة الأقرع وعيينة، وتأجيل القتال، لكن الصديق رضي الله عنه كان له رأي آخر، لقد قال لهم:
أما أنا فأرى أن ننبذ إلى عدونا، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، وأن لا نرشوا على الإسلام أحدًا، وأن نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، فنجاهد عدوه كما جاهدهم، والله لو منعوني عقالا، لرأيت أن أجاهدهم عليه حتى آخذه، وأما قدوم عيينة وأصحابه إليكم، فهذا أمر لم يغب عنه عيينة، هو راضيه، ثم جاءوا له، ولو رأوا ذباب السيف، لعادوا إلى ما خرجوا منه، أو أفناهم السيف، فإلى النار قتلناهم على حق منعوه، وكفر اتبعوه.
وعارض عمر بن الخطاب وكل الصحابة رضي الله عنهم أبا بكر في قتال المرتدين قائلين له:
علام تقاتل الناس؟!
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا.
وكان عمر يتكلم عن تلك الطائفة من المسلمين التي ارتدت عن دفع الزكاة فقط, ولم تترك الإسلام كلية، فهو يعارض أبا بكر في قتالهم؛ لأنهم لم ينكروا الألوهية، ولا الرسالة، أما من ارتد، وادعى النبوة، وقاتل المسلمين، وأنكر نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو متفق معه على أنهم مرتدون.
فقال الصديق رضي الله عنه:
والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال.
ثم قال في قوة:
والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله، لقاتلتهم على منعه.
وهنا لنا وقفات مع اجتهاد الصديق رضي الله عنه:
أولًا: لقد قال:
والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة.
فهو قد وجد أن الزكاة دائمًا تقرن بالصلاة في كتاب الله، ومن ثَمَّ فلها حكمها، وقد ذكرت الزكاة في القرآن الكريم ثلاثين مرة، قرنت فيها مع الصلاة في ثمان وعشرين مرة، والجميع يعلم أن من ترك الصلاة مستحلًا تركها، فهو كافر يستحق المقاتلة، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد، وقال الترمذي: حسن صحيح:
الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا كَفَرَ.
فإذا كانت تارك الصلاة كذلك، فكذلك الذي ترك الزكاة المقرونة بها مستحلًا لهذا الترك، فهو كافر أيضًا ويستحق المقاتلة.
ثم إنه رأى في الاستثناء الذي قاله صلى الله عليه وسلم:
إِلَّا بِحَقِّهَا.
تفسيرًا لم يفقهه كثير من الصحابة، فليس الإيمان شيئًا نظريًا بلا تطبيق في واقع الحياة، وليست كلمات تقال فارغة من المضمون، فلا إله إلا الله كلمة لها حقها، وهو كبير، وأعظم حقوقها الطاعة، والاتباع لله ورسوله، دون تردد أو تحريف، وقول لا إله إلا الله دون طاعة، وبدون أداء حقها، لا يعطي الإنسان وصف الإيمان الصحيح، وأهل مكة المشركون كانوا يؤمنون بأن الله خالق لكل شيء، ولكنهم رفضوا أوامره، فكفروا بذلك مع اقتناعهم بكونه خالقًا، وكذلك المال في الإسلام له حق، وحق المال الزكاة، ومن لم يؤده لم يفقه حقيقة معنى التكليف الإلهي، والذي يرده من الأصل، ويرفض هذا الحق منكرًا له، فهو لم يفقه لا إله إلا الله، ولا حقها، وبذلك يكفر، ومن كفر من بعد إيمانه وجب قتاله.
هكذا في بساطة استنبط الصديق رضي الله عنه وجوب قتال هؤلاء الذين استحلوا منع الزكاة.
ثم ختم استنباط وجوب القتال من منهجه الثابت ومرجعيته المضمونة، لقد رأى أن هؤلاء قد أعلنوا إعلانًا صريحًا أنهم سيخالفون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولن يستمروا على عهده، وهذه بالنسبة للصديق رضي الله عنه قاصمة حقيقية.
[فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] {النساء:65}.
لقد قال الصديق في ثقة:
والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه.
فقضية مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قضية لا يتخيلها الصديق رضي الله عنه، ومن هنا استنبط حكمه الموفق.
ولما رأى الصحابة إصرار أبي بكر على قتال المرتدين ومانعي الزكاة، ناقشوه في المشكلة الثانية:
أين الجيوش التي ستحارب هؤلاء المرتدين؟!
ولكن أبا بكر يرد عليهم بكلمات خالدة، تُكتب بحروف من نور، قال:
أقاتلهم وحدي حتى تنفرد سالفتي.
أي: حتى تقطع رقبتي، وهذه الكلمة تلخص حياة أبي بكر الصديق كلها أقاتلهم وحدي.
فكل القرارات التي اتخذها في حياته رضي الله عنه وأرضاه كانت قرارات يبدأ فيها هو بالخير، دون أن يكون هناك خير على سطح الأرض كلها كالذي هو عليه، يبدأ بنفسه أولًا، فقد كان أول من أسلم من الرجال، ولم يكن هناك مسلمون، علم أن الحق في الإسلام فأسلم، ولما كان حادث الإسراء والمعراج قال له الناس:
إن محمد يقول إنه أسري به من مكة إلى بيت المقدس.
فقال أبو بكر:
والله، لو قال ذلك لصدقته.
وصدق بحادث الإسراء والمعراج دون أن يسأله، وفي الهجرة كان الشخص الوحيد الذي خرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم، في كل الأمور له وقفة بمفرده، حتى يوم وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت له وقفه مختلفة عن الصحابة، فبوقفته أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعله سببا في ثبات الصحابة، أمام وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أنفذ بعث أسامة بن زيد مع معارضة الصحابة له، وهو الذي جهز الجيوش لمحاربة المرتدين، وكل الصحابة يعارضه، وهو يقول:
أقاتلهم وحدي حتى تنفرد سالفتي.
وفي ذلك يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مقولة في حق أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، يقول:
والله لقد حدث بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم من الأحداث ما إن لم يَمُنّ الله على المؤمنين بأبي بكر الصديق رضي الله عنه لخشيت ألا يعبد الله في الأرض بعد ذلك.
يقول إن الله سبحانه وتعالى جعل أبا بكر سببا لبقاء عبادته في الأرض بثباته ومحاربته للمرتدين، ولو لم يصر على ذلك لما عبد الله في الأرض بعدها.
ودخلت كلمات أبي بكر في قلوب الصحابة فلم تترك شكًا, ولا تحيرًا إلا أزالته.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
فوالله، ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتل، فعرفت أنه الحق.
وعلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه على موقف الصديق هذا قائلًا:
والله لرجح إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة جميعًا في قتال أهل الردة.
هنا، ومن هذا الموقف، يظهر لنا هنا عامل هام من عوامل الخروج من الأزمة، وهو العلم، فقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أعلم الصحابة، كما يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: كان أبو بكر أعلمنا.
وهذا العلم هو الذي أخرج المسلمين من الأزمة، وما أكثر ما ضل المخلصون لغياب العلم، فالإخلاص وحده لا يكفي، والنوايا الحسنة فقط لا تكفي، والتضحية الكاملة وحدها لا تكفي، إنما يجب أن يكون كل ذلك مصقولًا بل مسبوقًا بالعلم، ولعلنا هنا نفهم لماذا بدأ القرآن الكريم في النزول بآيات تحث على العلم.
وهكذا رأينا كيف كان موقف الصحابة رضي الله عنهم أن يؤثروا السلامة لأنهم لا طاقة لهم بهؤلاء المرتدين، وقتالهم فهم أضعاف المسلمين، حتى أن عمر أشار على أبي بكر بعدم قتالهم، فقال له أبو بكر:
أجبَّار في الجاهلية، خوَّار في الإسلام يا عمر؟!
فما هي إلا لحظات حتى شرح الله صدر عمر للذي شُرح له صدر أبي بكر، وعرف عمر أن أبا بكر على الحق.
كانت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مصيبة عظيمة، وكان لها رد فعل كبير على الصحابة، وتم اختيار أبي بكر الصديق خليفة للمسلمين، وهو أول خليفة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، واجتمع المسلمون على مبايعته، وعلى تأييده، وأصبح رضي الله عنه خليفة رسول الله بعد وفاة الرسول في نفس الليلة، ففي فجر الثلاثاء الثالث عشر من ربيع الأول بويع أبو بكر الصديق خليفة للمسلمين رضي الله عنه وأرضاه.
وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة حدثت في الجزيرة العربية فتنه من أشد الفتن التي مرت على الأمة الإسلامية، كأن الله سبحانه وتعالى يبتلي هؤلاء القوم، ابتلاهم أولا بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم بهذا الأمر الشديد، والحمد لله فقد صبروا على هذا الابتلاء العظيم...
فتنة الردة
ما إن علمت الجزيرة العربية بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى نقضت عهدها، وتركت دينها، ولم يثبت من الجزيرة العربية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ثلاث مدن، وقرية واحدة.
فارتدت قبائل بني حنيفة، وبني أسد، وعبس، وذبيان، وقضاعة، وكندة، وتميم، وقبائل اليمن، وعمان، والبحرين، ومهرة، وتهامة، وغير ذلك من قبائل، ولم يبق على الإسلام إلا المدينة المنورة، ومكة، والطائف، وقرية جُوَاثى بشرق الجزيرة العربية، وحتى هذه الأماكن باستثناء المدينة المنورة كانت على شفا حفرة الردة، لولا أن ثبتهم الله عز وجل برجال صادقين فيهم،
فكانت مكة على خطر عظيم، ولقد راودتها فكرة الردة، وتكلم الناس في الردة، حتى هَمّ كثير منهم بها، فقيض لهم الله من وقف فيهم خطيبًا، وهو سهيل بن عمرو، وكان حديث عهد بالإسلام، فقد أسلم في فتح مكة، ولما أُسِر هذا الرجل في غزوة بدر أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن ينزع ثَنِيَّتَيْه حتى لا يقف خطيبًا، يهاجم النبي صلى الله عليه وسلم، كما كان يفعل، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:
يَا عُمَرُ، دَعْهُ، فَلَعَلَّهُ يَقِفُ مَوْقِفًا يُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
فلما كانت الردة، وقف هذا الرجل وقال لهم خطبة عظيمة في الكعبة يحض الناس فيها على عدم الارتداد، والتمسك بحبل الله، وحبل رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال لهم:
لقد كنتم آخر من أسلم، فلا تكونوا أول من غَيّر وبدّل.
قال: إن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي، وإن الله تعالى قد قال:
[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ] {آل عمران:144} .
نفس الآية التي قرأها أبو بكر الصديق في المدينة قرأها هو في مكة، فثَبَت الناس، ولم يرتدوا، فكل هؤلاء في ميزان حسنات هذا الرجل.
أما المدينة الثالثة التي ثبتت ولم ترتد، وهى الطائف، وهذا شيء غريب جدا، فالطائف كانت قاسية على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذهب إليها في العام العاشر أو الحادي عشر من البعثة، بعد وفاة السيدة خديجة، ووفاة عمه أبي طالب، فقد ذهب إلى الطائف راجيًا منها النصرة، فوجد منها أبشع الردود، وقذفوه بالحجارة حتى سالت الدماء من قدميه الشريفة صلى الله عليه وسلم، ولقد أبى الرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطيع ملك الجبال في إطباق عليهم الأخشبين- والأخشبان: جبلان عظيمان- وقال: عَسَى اللَّهُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا.
فكما تمنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبتوا على الإيمان، وجعل الله من أصلابهم من يؤمن بالله، ومن يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وثبتت مدينة الطائف.
فهذه هي المدن الثلاث التي ثبتت على الإسلام، أما القرية فهي قرية صغيرة تسمى جُوَاثى في منطقة البحرين، وما زالت موجودة، ومعروفة باسمها، فمنطقة البحرين ارتدت كلها، وليس المقصود بمنطقة البحرين دولة البحرين الموجودة الآن، ولكن المقصود هو كل شرق الجزيرة العريبة، فهذه المنطقة كلها ارتدت، ولم يبق فيها على الإسلام، إلا جُوَاثى، وبفضل الله تعالى قيض الله لذلك رجل يُدعى الجارود بن يعلى، هذا الرجل قام، فخطب في الناس خطبة يدعوهم للإيمان بالله وبرسوله، حيا أو ميتا، وثبت الناس بخطبة الجارود بن يعلى، وكلهم إن شاء الله في ميزان حسناته أيضا، فثبتت هذه القرية الصغيرة، ولما ثبتت على الإيمان حاصرتها قوى البغي والردة من البحرين، ومنعوا عنها الطعام حتى كادت أن تهلك إلى أن أذن الله لها في النجاة.
نِعْمَة الصِّدِّيق رضي الله عنه
كان من الممكن أن تكون لهذه الفتنة العظيمة آثار وخيمة، لولا أن الله عز وجل مَنّ على الأمة في ذلك الوقت بنعمة عظيمة هائلة، تلك هي نعمة الصديق رضي الله عنه.
لقد كان الصديق رضي الله عنه فعلًا نعمة من الله عزّ وجل أيد بها هذه الأمة، وحفظ به الدين والقرآن، وقمع به المشركين والمرتدين.
وحقًا فهذا رجل يوزن بأمة كما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم كما روى الإمام أحمد في مسنده عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ غَدَاةٍ، بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَقَالَ:
رَأَيْتُ قُبَيْلَ الْفَجْرِ كَأَنِّي أُعْطِيتُ الْمَقَالِيدَ، وَالْمَوَازِينَ، فَأَمَّا الْمَقَالِيدُ فَهَذِهِ الْمَفَاتِيحُ، وَأَمَّا الْمَوَازِينُ فَهِيَ الَّتِي تَزِنُونَ بِهَا، فَوُضِعْتُ فِي كِفَّةٍ، وَوُضِعَتْ أُمَّتِي فِي كِفَّةٍ، فَوُزِنْتُ بِهِمْ، فَرَجَحْتُ، ثُمَّ جِيءَ بِأَبِي بَكْرٍ، فَوُزِنَ بِهِمْ فَوَزَنَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُمَرَ فَوُزِنَ فَوَزَنَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُثْمَانَ فَوُزِنَ بِهِمْ، ثُمَّ رُفِعَتْ.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه يصف هذا الموقف المتأزم:
والله الذي لا إله إلا هو، لولا أن أبا بكر استخلف ما عُبِد الله.
ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة، فقيل له:
مه يا أبا هريرة؟
فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام، فلما نزل بذي خشب قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتدت العرب حول المدينة، فاجتمع إليه أصحاب رسول الله، فقالوا:
يا أبا بكر رد هؤلاء، تُوَجّه هؤلاء إلى الروم، وقد ارتدت العرب حول المدينة؟
فقال: والذي لا إله غيره، لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رددت جيشا وجهه رسول الله، ولا حللت لواء عقده رسول الله.
وليس هذا الكلام مبالغة أبدًا من أبي هريرة رضي الله عنه، فالصديق فعلًا عظيم، وتظهر عظمته بصورة أكبر عندما نعلم أن هذا الموقف كان بعد أيام قليلة جدًا من استلامه للحكم، ومن المعتاد أن قائد الدولة يحتاج إلى فترة للتأقلم على الوضع الجديد، ولاكتساب الخبرة، ولكن الصديق رضي الله عنه أدار الأمور بحزم وكفاءة، وكأنه يحكم الدولة منذ سنوات وسنوات.
ولا ننسى أن مصيبة الردة هذه جاءت بعد أيام قلائل من مصيبة أخرى كبيرة، هي مصيبة وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن مصاب الصديق كان كبيرًا، فهو أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، و أشدهم حزنًا على فراقه، ولكن الله عز وجل رزقه نعمة الثبات، والثبات نعمة جليلة لا توهب إلا لمن كان مؤمنًا حقًا.
[يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ] {إبراهيم:27} .
كان ارتداد الجزيرة العربية على درجات فمن العرب من منع الزكاة، وادعى أنها كانت تُعطى لرسول الله صلى الله عليه وسلم شخصيًا، فلما مات الرسول صلى الله عليه وسلم سقطت عنهم الزكاة بزعمهم.
وكانوا قد تأولوا قول الله تعالى:
[خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] { التوبة:103} .
وقالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المأمور بأَخْذ الصدقة، وأَخْذ الزكاة، وهو الذي كان يصلي عليهم، وبموته لم تعد هناك صلاة عليهم.
وهذا مفهوم مغلوط سطحي مدفوع بحب الإنسان للمال، ورغبته في الكَنْز والتملك، وليس مبنيًا أبدًا على علم أو على اجتهاد صحيح مقبول؛ لأن الزكاة أصل من الأصول الإسلامية، وهي من المعلوم من الدين بالضرورة، ولها نصابها المعروف، ولها مصارفها المحددة،، وجمعت مع الصلاة في كتاب الله عشرات المرات، ولذلك اعتبر من ينكر الزكاة كأصل من الأصول الإسلامية المعتبرة مرتدًا خارجًا عن الدين، مفارقًا للجماعة، سواء بعد ذلك اعترف بالصلاة، أو بالصيام، أو بغيرها من الأحكام أم لم يعترف.
وهذا بالطبع غير من عَلِم أن الزكاة حق، ولكن غلبت نفسه الضعيفة على عدم إخراجها، ولكن دون أن يستحل ذلك، فهذا لا يعده عامة الفقهاء مرتدًا، إنما يعدونه فاسقًا، يحتاج إلى إقامة حد، أو تعزير، بحسب ما يراه الحاكم.
وقد وقفت أكثر من قبيلة عربية في ذلك الوقت هذا الموقف الخبيث، فأنكرت الزكاة أصلًا، واشترطوا أن يقبلوا الإسلام بدون زكاة،، وبذلك أخذوا حكم المرتدين.
ومن العرب من ترك الإسلام كله، وعاد إلى ما كان يعبد من أصنام، وقالوا مقالة تعبر عن جهل عميق بحقيقة النبوة، إذ قالوا:
لو كان محمد نبيًا ما مات.
رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعلن مرة واحدة في حياته أنه لن يموت، بل كان دائم التذكير بأنه بشر يجري عليه ما يجري على عامة البشر، والفارق الوحيد بينه وبين عامة الناس أنه يأتيه الوحي من السماء.
قال تعالى يعلم نبيه كيف يخاطب الناس:
[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ] {الكهف:110} .
بل صرح رب العالمين في كتابه الكريم في أكثر من موضع أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيموت كعامة الخلق فقال تعالى:
[إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ] {الزُّمر:30} .
وقال:
[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ] {آل عمران:144} .
وهكذا فحجة ترك الإسلام لأجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات حجة واهية، ولكنها وجدت قبولًا عند بعض القبائل.
ومن العرب من لم يكتف بالردة، ويترك المسلمين في شأنهم، بل انقلبوا على المسلمين الذين لم يرتدوا، فقتلوهم، وذبحوهم، وفعلوا بهم أشنع المنكرات.
ومن العرب من سارع بادعاء النبوة، وكلهم يطمع في أن يصل إلى ما وصل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من سيطرة كاملة على جزيرة العرب، و قيادة كل القبائل، فزعم بعض القوم أنهم يأتيهم الملائكة من السماء توحي إليهم، وأنهم أنبياء، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيًا، ومن أشهر هؤلاء مسيلمة الحنفي الكذاب، والأسود العنسي، وطليحة بن خويلد، وسجاح، وغيرهم.
وإن كان بعضهم لم ينكروا نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن قالوا نحن أنبياء مثله، وشركاء في هذا الأمر، ومنهم من قال نحن أنبياء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهكذا تعددت أنواع الردة، ولكنهم في النهاية فريق واحد اسمه فريق المرتدين، تميزوا بوضوح عن المسلمين الذين كانوا قلة قليلة مبعثرة في ثلاث مدن وقرية، وبعض الأفراد في بعض القبائل.
لقد كانت أزمة طاحنة حقًا.
أسباب حدوث الردة
قد يتساءل البعض سؤالًا هامًا:
لماذا حدثت الردة بهذه الصورة المروعة؟!
لماذا يبقى القليل على الإسلام، و يعرض الكثير عنه؟!
أليس الإسلام واضحًا نقيًا معجزًا؟
أليس البديل الذي أتى به من ادعى النبوة بديلا هزيلًا واهنًا، لا تُقره لغة، ولا يقتنع به عاقل؟
وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا حدثت الردة؟!
بادئ ذي بدء هناك قاعدة أصيلة، وسُنة محكمة لا خلف لها حكمت الأحداث في تلك الأيام، وتحكم الأحداث إلى يوم القيامة، تلك هي سُنة حرب الحق و الباطل.
ما دام هناك بشر على الأرض، فسيكون هناك أهل خير، وسيكون هناك أهل شر، وسيكون هناك حق، وسيكون هناك باطل.
ومن السنن كذلك أن أهل الباطل كثرة، وأن أهل الحق قلة، تواترت على ذلك الآيات، والأحاديث، ورأينا ذلك في الواقع مرات ومرات.
القليل الذي يكبت جماح هواه ليسير في طريق الحق، والكثير الذي يعبد هواه مهما قاده إلى المهالك.
[وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ] {الأنعام:116} .
[وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ] {يوسف:103}.
هذه قاعدة أصيلة تحكم الدنيا، فالفاسدين أكبر بكثير من الصالحين، لكن كان البعض يتوقع أن تكون الردة ليست بهذا الحجم، لكون الناس قريبي عهد برسول الله صلى الله عليه وسلم، بمنهجه القويم، وتربيته العظيمة، وقيادته المبهرة، وإعجازه الواضح.
فلماذا ؟!
الواقع أن هناك أعدادًا ضخمة من العرب دخلوا في الإسلام في العامين الأخيرين من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيما عرف في التاريخ بالوفود، ولم يدخل هؤلاء في الإسلام إلا انبهارًا بسيطرة المسلمين على الجزيرة العربية، وانتصارهم على قريش أكبر القبائل العربية، ثم على هوازن وثقيف، وغيرها من القبائل العظمى في الجزيرة، فجاء الناس أفواجًا يدخلون في دين الله عز وجل، ولكن ليس كلهم عن اقتناع، فمنهم من جاء رغبًا في المال، والغنائم، والارتباط بالقوة الأولى الجديدة في الجزيرة، ومنهم من جاء رهبًا من قوة المسلمين، ومنهم من جاء لا رغبًا ولا رهبًا، ولكن اتباعًا لزعمائهم وقادتهم، فساقهم زعماؤهم كالقطيع فدخلوا في دين لا يعرفون حدوده، ولا فروضه، ولا تكاليفه، ولم يفقهوا حقيقة الرسول صلى الله عليه وسلم وحقيقة الرسالة، ولم يعيشوا مع القرآن، ولا مع السنة، بل إن الكثير من العرب الذين أسلموا في السنتين التاسعة والعاشرة من الهجرة لم يروا الرسول صلى الله عليه وسلم أصلًا، فلما مات الرسول صلى الله عليه وسلم اعتقد الجميع أن الدولة الإسلامية انهارت بموت من أسسها كما تنهار الكثير من الأعمال المعتمدة على شخص بعينه إذا غاب هذه الشخص، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد أسس جيلًا كاملًا فَقِه معنى الإسلام الحقيقي، وعلم هذا الجيل أن استمرارية الإسلام في الأرض ليست مرتبطة بأشخاص، بل هي طبيعة ذاتية في هذا الدين فهو لا يموت، ولا يندثر، ولا ينهار، قد يتعرض لأزمات، ولكن يخرج منها حتما، لأنه دين الله عز وجل، والله عز وجل ناصر دينه.
قال تعالى:
[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] {التوبة:33} .
كانت هذه هي ظروف الأعراب حول المدينة، ولم تكن الظروف فقط هي العامل المؤثر في سرعة ارتدادهم، بل كانت طبيعتهم الغليظة، والجافية سببًا في عدم قبول فكرة الإسلام الرقيقة الطيبة.
قال الله تعالى يصف حالة هؤلاء الأعراب:
[الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] {التوبة:97}.
هذا وصف رب العالمين لطبيعة هؤلاء الأقوام.
وفوق ذلك- كما ذكرت- هم لم يأخذوا الفرصة كاملة، والوقت المناسب لفقه حقيقة الإيمان، فدخلوا في الإسلام، ولم يؤمنوا حقيقته بعد.
قال تعالى يصف حالهم:
[قَالَتِ الأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {الحجرات:14} .
فهم دخلوا في الإسلام بأجسادهم، وألسنتهم، ولكن القلوب ما زالت بعيدة عن حقيقه الإيمان، ولذلك فليس مستغربًا أن يرتدوا عند أول شعور يراودهم بضعف الدولة الإسلامية، وقلة حيلتها.
ولم تكن المشكلة فقط في عوام الأعراب، ولكن كانت أيضا في زعمائهم، فالقبائل العربية ما تعودت مطلقًا على القيادة الجماعية، بل كان كل زعيم قبيلة زعيمًا في مكانه وقبيلته، يأمر فيطاع، ويشير، فلا راد لكلمته، وفجأة ضاعت زعاماتهم، وذابت في الدولة الإسلامية، ولم يقبل غالبهم بذلك، فلما مات رسول صلي الله عليه وسلم بحث كل منهم عن زعامته المفقودة، فكانوا أقرب ما يكون إلى عبد الله بن أُبَي ابن سلول الذي كان سينصب زعيمًا للمدينة المنورة قبل قدوم الرسول صلي الله عليه وسلم، فلما جاء الرسول صلي الله عليه وسلم ضاعت زعامته، فظل مع كونه في الظاهر مسلمًا يتحين الفرصة للقضاء علي الإسلام والمسلمين، وأمثال ابن سلول في العرب كثيرة، هناك مسيلمة الحنفي الكذاب، وطليحة بن خويلد الأسدي، والأسود العنسي، وغيرهم، وهؤلاء لم ينسوا زعامتهم أبدًا، ثم مات رسول صلي الله علية وسلم، وليس هذا فقط، بل تولى حكم الدولة الإسلامية أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو من أضعف بطون قريش، وهو بطن بني تيم، فوجد هؤلاء الزعماء في أنفسهم قوة للخروج عن الدولة الإسلامية، لقد كان خروجًا سياسيًا في المقام الأول، لم يكن أبدًا اقتناعًا بمبادئ الجاهلية، ورغبة في عبادة هبل، واللات، والعزى، بدلًا من عبادة رب العالمين، ولم تكن أبدًا اقتناعًا بنبوة أولئك الذين ادعوا النبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كان الأمر سياسيًا بحتًا.
حب الكرسي والزعامة آخر ما يخرج من قلب الإنسان، وكان هؤلاء الزعماء من الذكاء بحيث لم يطعنوا في الإسلام لعلمهم أنهم لا طاقة لهم بالإتيان بمثله، ولكنهم ضغطوا على معنى خطير يشغل بال كل عربي في ذلك الوقت، وهو معني القبلية، وهو معنى خطير حقا، وقاومه الإسلام بكل ضراوة، فالإسلام ليس دين قريش حتى تقف في مواجهتها قبيلة أخرى، إنما هو دين الله عز وجل لكل العباد من كل القبائل، والألوان، والأجناس.
لكن لقرب العهد بالجاهلية والقبلية دخل في روع الأعراب عن طريق زعمائهم أن قبائلهم ليست أقل من قريش، ولا يصح أن تخضع لها، فالحرب- في تصويرهم- حرب قبائل، ومن لم يبحث له عن مكان الآن، فلن يجد مكانًا في المستقبل.
وباعت الأعراب كل شيء في سبيل القبيلة، عبر عن ذلك أحد المرتدين من بني حنيفة التي ظهر فها مسيلمة الكذاب يدعي النبوة، فقال في صراحة:
والله أعلم أن محمدًا صادقًا، وأن مسيلمة كاذب، ولكن كاذب ربيعة أحب إليّ من صادق مضر.
هكذا في صراحة، أو قل في وقاحة.
فليس الحق هو الذي يبحث عنه ليتبعه، وإنما هو يعبد هواه، وهواه في القبيله، فليتبع كذاب بني حنيفة، وليترك صادق مضر.
ومع ذلك فالصورة النهائية للوضع، هي حرب بين الحق والباطل، هي السنة الكونية الطبيعية جدًا، هي حرب بين الإسلام وأعداء الإسلام، بصرف النظر عن مسميات الأعداء، لقد كانت القبلية هي القناع الذي وقف وراءه أعداء الإسلام في ذلك الوقت لحرب الإسلام، أما الهدف العميق الأصيل، فهو حرب الإسلام ذاته، و دليل ذلك أن المرتدين قتلوا المسلمين في قبائلهم نفسها، لقد انقلب مسيلمة الكذاب الحنفي على المسلمين من بني حنفية، فقتلهم، وكذلك فعل طلحة، وفعل غيرهم.
الأقنعة تتبدل، والحرب ضد الإسلام مستمرة، إنها سُنة ثابثة.
[وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا] {البقرة:217} .
الأغلفة الخارجية، والأقنعة تختلف، وحرب الإسلام واحدة.
الأقنعة قد تكون قبلية، أو اهتمامات سياسة، أو أطماع اقتصادية، أو تنافس، أو أحقاد، أو أضغان.
كل هذا لا قيمة له في المضمون الحقيقي، والحرب في النهاية حرب الحق مع الباطل بكل صوره.
كانت الردة من أشد المواقف التي مرت بالأمة الإسلامية منذ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا، وما أحسب أن هناك ماهو أخطر منها في المستقبل، لقد كانت أزمة جعلت جيل الصحابة يعتقد أن القضية قد انتهت، والإسلام سيندثر، ولا أمل مطلقًا في النجاة، وعندما يعتقد جيل الصحابة الحكيم جدًا، والقوي جدًا هذا الاعتقاد، فاعلم أن الخطب عظيم، وأن المصيبة هائلة.
ولا تُقَارن فتنة الردة بما بعدها من فتن أبدًا، فلا فارس، ولا الروم، ولا التتار، ولا الصليبية، ولا من سبق، ولا من لحق، يقارن بهذه الأزمة الخطيرة أبدًا.
لقد كانت خطرًا داهمًا ليس على كيان الدولة الإسلامية فقط، ولكن على الإسلام نفسه كدين وكشريعة، فلو قدر لهذه الفتنة أن تستمر لتبدلت مفاهيم، وتغيرت تصورات، ولحُرّف الدين كما حُرّف قبل ذلك دين اليهود والنصارى.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها واصفة لهذا الحدث المروع:
لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم نجم النفاق، وارتدت العرب، واشرأبت اليهودية، والنصرانية، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية.
بعث أسامة وموقف الصحابة منه
أشار بعض الصحابة على أبي بكر بأن لا ينفذ بعث أسامة، ويظل هذا الجيش في المدينة ليحميها من المتربصين بها.
وكان الرسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوصى بإنفاذه قبل وفاته، وجهز الجيش، وخرج الجيش على مشارف المدينة، وعلم الجيش بمرض الرسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يخرجوا، فكان أول قرار يأخده في الخلافة، هو قرار إنفاذ بعث أسامة بن زيد، وكان صلى الله عليه وسلم قد أنفذ هذا البعث ليحارب الرومان في شمال الجزيرة العربية، وقبائل قضاعة الموجودة في شمال الجزيرة العربية، والجزيرة العربية كلها انقلبت، وكلها ارتدت عن دين الإسلام، وكلها تضع المدينة تحت المجهر، وكل الجزيرة العربية تتخطف وتتوعد المدينة، وهذا الجيش الخارج من المدينة، لم يكن موجها إلى من ارتدوا، ولكن كان موجهًا إلى الرومان، ولم يكن في منطقة قريبة من المدينة حتى يستطيع أن يأتي إليها إذا داهمها المرتدون، بل كان هذا الجيش خارجا إلى مشارف الشام، ومع ذلك أصر أبو بكر رضي الله عنه أن يُنفذ هذا الجيش مع كل ما يحيط بالمسلمين من خطورة.
وثار عليه بعض الصحابة، وكلموه في ذلك، فقال لهم كلمة تسجل بحروف من نور:
والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أن الطير تخطفنا، والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزن جيش أسامة.
فهذا ما أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم قبل وفاته، وبالفعل، يخرج جيش أسامة بن زيد، فتكلمه الصحابة في أمير الجيش، ويأتى له عمر بن الخطاب، ويقول:
لو اتخذت أميرًا غير أسامة بن زيد.
وكان سِنه يومئذ سبعة عشر عامًا، أو ثمان عشر عامًا، يطلب منه عمر أن يُنَصب أميرًا أكثر حكمة منه؛ لأن الأمر صعب، فيمسكه أبو بكر من لحيته ويهزه ويقول له:
ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، أمنع أميرا أمّره رسول الله عن إمارة جيشه. وكان قد نشب خلاف في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على إمارة أسامة بن زيد، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أصر على ذلك، فإذا كان هذا الإصرار، فكيف يغيره أبو بكر الصديق؟!
فأصر أن يكون أسامة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه هو الأمير.
ويخرج بعث أسامة بن زيد، والجزيرة العربية كلها متأججة في نار الردة، ويخرج البعث من المدينة، وفي الجيش عمر بن الخطاب تحت إمارة أسامة بن زيد، وأراد أبو بكر عمر بن الخطاب؛ ليسانده الرأي في المدينة في ذلك الوقت، فالموقف صعب، وهو الرجل الثاني بعد أبي بكر الصديق رضى لله عنه، فيخرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه يمشي، وأسامة بن زيد راكب على فرسه، وأبو بكر ماشيا بجواره، يخاطبه في ذلك، يقول له: لو أذنت لي في عمر بن الخطاب، أستعين برأيه في المدينة.
وأسامة يقول له:
يا أبا بكر، إما أن تركب، وإما أن أنزل.
فيصر رضي الله عنه على المشي، ويقول:
وما لي لا أُغَبّر قدماي في سبيل الله ساعة.
ويأخذ عمر بن الخطاب، ويرجع به إلى المدينة، ويخرج الجيش المسلم إلى مشارف الشام.
أثر إنفاذ بعث أسامة
لعلها حكمة أظهرها الله عز وجل من إصرار النبي صلى الله عليه وسلم على إنفاذ بعث أسامة، وتوفيق أبي بكر بإصراره على خروج الجيش كما أوصى بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، هذه الحكمة هي إرهاب القبائل المرتدة.
لما خرج الجيش إلى أطراف الشام فرت منه الجيوش الرومانية في هذه المنطقة، فلم يلق قتالا من الرومان، فوجد بعض القبائل في هذه المنطقة ارتدت، فقاتل كل هذه القبائل، وشتت شملها، وهزمها، وهربوا إلى منطقة تسمى دومة الجندل، ولكن أسامة بن زيد لم يكن مأمورا بقتال هذه القبائل، ولا تتبعها، فأكتفى، وعاد بسرعة إلى أبي بكر الصديق في المدينة ومعه الغنائم من هذه الموقعة، ومكث أسامة بن زيد في هذه الرحلة خمسة وثلاثين يومًا فقط، وهذا هو التقدير الأقرب، لكن هناك من يقول أن هذا البعث استغرق شهرين، لكن الأقرب ما ذكرنا.
خروج الجيش إلى شمال الجزيرة أحدث بكل القبائل العربية الموجودة في هذه المنطقة رهبة من المسلمين مما جعلهم يظنون أن للمسلمين قوة في المدينة، فمن المؤكد أن بالمدينة جيوش عظيمة جدا، وأن هذا جزء صغير من الجيوش، فكل القبائل المرتدة في هذه المنطقة ظنت هذا الظن، فلم يكن يمر جيش أسامة في منطقة إلا أرعبهم، فقررت عدم الهجوم على المدينة وإثار السلامة، لرعبهم من جيش أسامة بن زيد، وخوفا ممن في المدينة، مع أنه لم يكن هناك جيش بالمدينة، إلا أنها كانت حكمة من الله عز وجل ألهم بها نبيه، ووفق لها أبا بكر، فأُلْقي في قلوبهم الرعب، فكانت هذه فائدة عظيمة من خروج جيش أسامة بن زيد رضي الله عنه.
موقف الصحابة من الردة
يا أبا بكر أَغْلق عليك بابك، وليسعك بيتك، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين.
كانت هذه هي الكلمات التي واجه بها الصحابة رضى الله عنهم أبا بكر الصديق رضي الله عنه أول استلامه الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ووصلت الأنباء بارتداد العرب عن دين الإسلام.
لقد كان موقفًا صعبًا طاشت فيه عقول، وذهلت فيه ألباب، وكانت فتنة حقيقية تركت الحليم حيران، واعتقد بعض الصحابة أن هذه هي نهاية الدنيا، وفكر البعض في اعتزال الناس، وأن يعبد، ويجتهد في العبادة إلى أن يأتيه اليقين، ومنهم من فكر في الخروج إلى الصحراء.
وفي هذا الموقف اختار الصحابة جميعًا رأيًا، واختار الصديق رأيًا آخر، لقد رأى الصحابة أن الجزيرة العربية قد ارتدت بكاملها تقريبًا، ورأوا كذلك أن المدينة المنورة العاصمة أصبحت خالية تقريبًا من الجنود، وذلك عندما كان جيش أسامة في الشام، ورأوا كذلك أن هناك بعض القبائل القريبة من شمال المدينة قد أعلنت ردتها، وهي في ذات الوقت علمت بخروج جيش المدينة إلى الشام، وهذه القبائل ليست بسيطة، ويأتي على رأسها قبائل أسد، وفزارة، وعبس، وذبيان، وكانت هذه القبائل قد أرسلت رسولًا مرتدًا هو عيينة بن حصن الفزاري، ومعه الأقرع بن حابس؛ ليفاوضا المسلمين في المدينة في أن يقبل أبو بكر منهم الصلاة، ويرفع عنهم الزكاة، في مقابل أن يرفع المرتدون أيديهم عن المدينة.
لقد كان الموقف خطيرًا فعلًا، وكانت المدينة مهددة.
في هذا الجو المشحون جاء الصحابة إلى أبي بكر رضي الله عنهم يعرضون عليه قبول طرح عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، بل إعطاءهما بعض المال، وذلك لتحييدها، وتخفيف ضغط الأزمة، قال الصحابة رضي الله عنهم:
نرى أن نطعم الأقرع، وعيينة طعمة يرضيان بها، ويكفيانك مَن وراءهما، حتى يرجع إليك أسامة، وجيشه، ويشتد أمرك، فإنا اليوم قليل في كثير، ولا طاقة لنا بقتال العرب.
كان هذا رأي الصحابة، مساومة الأقرع وعيينة، وتأجيل القتال، لكن الصديق رضي الله عنه كان له رأي آخر، لقد قال لهم:
أما أنا فأرى أن ننبذ إلى عدونا، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، وأن لا نرشوا على الإسلام أحدًا، وأن نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، فنجاهد عدوه كما جاهدهم، والله لو منعوني عقالا، لرأيت أن أجاهدهم عليه حتى آخذه، وأما قدوم عيينة وأصحابه إليكم، فهذا أمر لم يغب عنه عيينة، هو راضيه، ثم جاءوا له، ولو رأوا ذباب السيف، لعادوا إلى ما خرجوا منه، أو أفناهم السيف، فإلى النار قتلناهم على حق منعوه، وكفر اتبعوه.
وعارض عمر بن الخطاب وكل الصحابة رضي الله عنهم أبا بكر في قتال المرتدين قائلين له:
علام تقاتل الناس؟!
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا.
وكان عمر يتكلم عن تلك الطائفة من المسلمين التي ارتدت عن دفع الزكاة فقط, ولم تترك الإسلام كلية، فهو يعارض أبا بكر في قتالهم؛ لأنهم لم ينكروا الألوهية، ولا الرسالة، أما من ارتد، وادعى النبوة، وقاتل المسلمين، وأنكر نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو متفق معه على أنهم مرتدون.
فقال الصديق رضي الله عنه:
والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال.
ثم قال في قوة:
والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله، لقاتلتهم على منعه.
وهنا لنا وقفات مع اجتهاد الصديق رضي الله عنه:
أولًا: لقد قال:
والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة.
فهو قد وجد أن الزكاة دائمًا تقرن بالصلاة في كتاب الله، ومن ثَمَّ فلها حكمها، وقد ذكرت الزكاة في القرآن الكريم ثلاثين مرة، قرنت فيها مع الصلاة في ثمان وعشرين مرة، والجميع يعلم أن من ترك الصلاة مستحلًا تركها، فهو كافر يستحق المقاتلة، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد، وقال الترمذي: حسن صحيح:
الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا كَفَرَ.
فإذا كانت تارك الصلاة كذلك، فكذلك الذي ترك الزكاة المقرونة بها مستحلًا لهذا الترك، فهو كافر أيضًا ويستحق المقاتلة.
ثم إنه رأى في الاستثناء الذي قاله صلى الله عليه وسلم:
إِلَّا بِحَقِّهَا.
تفسيرًا لم يفقهه كثير من الصحابة، فليس الإيمان شيئًا نظريًا بلا تطبيق في واقع الحياة، وليست كلمات تقال فارغة من المضمون، فلا إله إلا الله كلمة لها حقها، وهو كبير، وأعظم حقوقها الطاعة، والاتباع لله ورسوله، دون تردد أو تحريف، وقول لا إله إلا الله دون طاعة، وبدون أداء حقها، لا يعطي الإنسان وصف الإيمان الصحيح، وأهل مكة المشركون كانوا يؤمنون بأن الله خالق لكل شيء، ولكنهم رفضوا أوامره، فكفروا بذلك مع اقتناعهم بكونه خالقًا، وكذلك المال في الإسلام له حق، وحق المال الزكاة، ومن لم يؤده لم يفقه حقيقة معنى التكليف الإلهي، والذي يرده من الأصل، ويرفض هذا الحق منكرًا له، فهو لم يفقه لا إله إلا الله، ولا حقها، وبذلك يكفر، ومن كفر من بعد إيمانه وجب قتاله.
هكذا في بساطة استنبط الصديق رضي الله عنه وجوب قتال هؤلاء الذين استحلوا منع الزكاة.
ثم ختم استنباط وجوب القتال من منهجه الثابت ومرجعيته المضمونة، لقد رأى أن هؤلاء قد أعلنوا إعلانًا صريحًا أنهم سيخالفون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولن يستمروا على عهده، وهذه بالنسبة للصديق رضي الله عنه قاصمة حقيقية.
[فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] {النساء:65}.
لقد قال الصديق في ثقة:
والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه.
فقضية مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قضية لا يتخيلها الصديق رضي الله عنه، ومن هنا استنبط حكمه الموفق.
ولما رأى الصحابة إصرار أبي بكر على قتال المرتدين ومانعي الزكاة، ناقشوه في المشكلة الثانية:
أين الجيوش التي ستحارب هؤلاء المرتدين؟!
ولكن أبا بكر يرد عليهم بكلمات خالدة، تُكتب بحروف من نور، قال:
أقاتلهم وحدي حتى تنفرد سالفتي.
أي: حتى تقطع رقبتي، وهذه الكلمة تلخص حياة أبي بكر الصديق كلها أقاتلهم وحدي.
فكل القرارات التي اتخذها في حياته رضي الله عنه وأرضاه كانت قرارات يبدأ فيها هو بالخير، دون أن يكون هناك خير على سطح الأرض كلها كالذي هو عليه، يبدأ بنفسه أولًا، فقد كان أول من أسلم من الرجال، ولم يكن هناك مسلمون، علم أن الحق في الإسلام فأسلم، ولما كان حادث الإسراء والمعراج قال له الناس:
إن محمد يقول إنه أسري به من مكة إلى بيت المقدس.
فقال أبو بكر:
والله، لو قال ذلك لصدقته.
وصدق بحادث الإسراء والمعراج دون أن يسأله، وفي الهجرة كان الشخص الوحيد الذي خرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم، في كل الأمور له وقفة بمفرده، حتى يوم وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت له وقفه مختلفة عن الصحابة، فبوقفته أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعله سببا في ثبات الصحابة، أمام وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أنفذ بعث أسامة بن زيد مع معارضة الصحابة له، وهو الذي جهز الجيوش لمحاربة المرتدين، وكل الصحابة يعارضه، وهو يقول:
أقاتلهم وحدي حتى تنفرد سالفتي.
وفي ذلك يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مقولة في حق أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، يقول:
والله لقد حدث بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم من الأحداث ما إن لم يَمُنّ الله على المؤمنين بأبي بكر الصديق رضي الله عنه لخشيت ألا يعبد الله في الأرض بعد ذلك.
يقول إن الله سبحانه وتعالى جعل أبا بكر سببا لبقاء عبادته في الأرض بثباته ومحاربته للمرتدين، ولو لم يصر على ذلك لما عبد الله في الأرض بعدها.
ودخلت كلمات أبي بكر في قلوب الصحابة فلم تترك شكًا, ولا تحيرًا إلا أزالته.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
فوالله، ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتل، فعرفت أنه الحق.
وعلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه على موقف الصديق هذا قائلًا:
والله لرجح إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة جميعًا في قتال أهل الردة.
هنا، ومن هذا الموقف، يظهر لنا هنا عامل هام من عوامل الخروج من الأزمة، وهو العلم، فقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أعلم الصحابة، كما يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: كان أبو بكر أعلمنا.
وهذا العلم هو الذي أخرج المسلمين من الأزمة، وما أكثر ما ضل المخلصون لغياب العلم، فالإخلاص وحده لا يكفي، والنوايا الحسنة فقط لا تكفي، والتضحية الكاملة وحدها لا تكفي، إنما يجب أن يكون كل ذلك مصقولًا بل مسبوقًا بالعلم، ولعلنا هنا نفهم لماذا بدأ القرآن الكريم في النزول بآيات تحث على العلم.
وهكذا رأينا كيف كان موقف الصحابة رضي الله عنهم أن يؤثروا السلامة لأنهم لا طاقة لهم بهؤلاء المرتدين، وقتالهم فهم أضعاف المسلمين، حتى أن عمر أشار على أبي بكر بعدم قتالهم، فقال له أبو بكر:
أجبَّار في الجاهلية، خوَّار في الإسلام يا عمر؟!
فما هي إلا لحظات حتى شرح الله صدر عمر للذي شُرح له صدر أبي بكر، وعرف عمر أن أبا بكر على الحق.