مقدمة
ما أعظم التواضع لو كان من عظيم حقيقي العظمة.
التواضع من مكارم الأخلاق التي اتصف بها الفاروق رضي الله عنه وأورثته محبة الآخرين.
فالعبد المتواضع يجعل الناس يحبون معاملته، ويودون مجالسته، ويتمنون لقاءه، ويستأنسون بكلامه، ويتفانون في خدمته.
فالتواضع يعني قبول الحق ممن كان، وخفض الجناح ولين الجانب، وعدم شعور النفس بأن لها فضلًا على الآخرين.
وما أجمل قول الشاعر:
تَوَاضَعْ تَكُنْ كَالنَّجْمِ لَاحَ لِنَاظِرٍ عَلَى صَفَحَاتِ الْمَاءِ وَهْوَ رَفِيعُ
وَلَا تَكُ كَالدُّخَانِ يَعْلُو بِنَفْسِهِ إِلَى طَبَقَاتِ الْجَوِّ وَهْوَ وَضِيعُ
وهذا الشافعي رحمه الله يقول: " التواضع من أخلاق الكرام، والتكبر من شيم اللئام " ويقول: " أرفع الناس قدرا من لا يَرَى قدره، وأكثر الناس فضلا من لا يَرَى فضله ". (تاريخ دمشق جزء 51- صفحة 413)
عمر يعطي الناس قدرهم
ولنصغ بقلوبنا إلى هذه الرواية، فقد أورد المتقي الهندي في (كنز العمال جزء 1- صفحة 5)
عن شرحبيل بن مسلم الخولاني أن الأسود بن قيس بن ذي الخمار تنبأ باليمن فبعث إلى أبي مسلم الخولاني فأتاه فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: ما أسمع. قال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. فأمر بنار عظيمة ثم ألقى أبا مسلم فيها، فلم تضره. فقيل للأسود بن قيس: إن لم تنف هذا عنك أفسد عليك من اتبعك. فأمره بالرحيل، فقدم المدينة، وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر، فأناخ راحلته بباب المسجد ودخل يصلي إلى سارية فبصر به عمر بن الخطاب، فقام إليه فقال: ممن الرجل؟ فقال: من أهل اليمن. فقال: ما فعل الذي حرقه الكذاب؟ (زاد في المنتخب: بالنار) قال: ذاك عبد الله بن ثوب. قال: فنشدتك بالله، أنت هو؟ قال: اللهم نعم. فاعتنقه عمر، وبكى ثم ذهب به وأجلسه فيما بينه وبين أبي بكر الصديق، فقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من صُنع به كما صُنع بإبراهيم خليل الرحمن فلم تضره النار.
ومن تواضع عمر ورقته ومن عجيب أمره، أنه مع هيبة الناس له، كان إذا غضب فقرأ أحد عليه آيات الرحمن، أو ذكّره بالله ذهب عنه غضبه؛ يقول ابن عباس رضي الله عنهما: قدم عيينة بن حصن على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يُدْنِيهم عمر رضي الله عنه، وكان القراء أصحاب مجلس عمر رضي الله عنه ومشاوريه ـ كهولًا كانوا أو شبابًا ـ فقال عيينة لابن أخيه الحر بن قيس: هل لك وجه عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه؟ قال: سأستأذن لك عليه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: فاستأذن الحر لعيينة، فلما دخل عليه قال: يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بالعدل، قال فغضب عمر رضي الله عنه حتى هم أن يقع عليه، فقال الحر: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه: [خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ] {الأعراف: 199}. قال: فوالله ما جاوزها عمر رضي الله عنه حين تلاها، وكان وقافًا عند كتاب الله.
يعرف نفسه جيدًا
يروي أنس بن مالك رضي الله عنه فيقول:
سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا، وخرجت معه، حتى دخل حائطًا، فسمعته يقول، وبيني وبينه حائط، وهو في جوف الحائط:
عمر بن الخطاب.. أمير المؤمنين.. بخ بخ، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب، أو ليعذبنك ".
وقدم على عمر بن الخطاب وفد من العراق فيهم الأحنف بن قيس في يوم صائف شديد الحر، وعمر معتجر (معمم بعباءة), يهنأ بعيرًا من إبل الصدقة (أى يطليه بالقطران) فقال: يا أحنف ضع ثيابك، وهلم، فأعن أمير المؤمنين على هذا البعير فإنه إبل الصدقة، فيه حق اليتيم، والأرملة، والمسكين، فقال رجل من القوم: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين، فهلًا تأمر عبدا من عبيد الصدقة فيكفيك؟ فقال عمر: وأي عبد هو أعبد منى، ومن الأحنف؟ إنه من ولى أمر المسلمين يجب عليه لهم ما يجب على العبد لسيده في النصيحة، وأداء الأمانة.
وعن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء فقلت: يا أمير المؤمنين، لا ينبغى لك هذا، فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين، دخلت نفسي نخوة؛ فأردت أن أكسرها.
وعن جبير بن نفير: أن نفرا قالوا لعمر بن الخطاب: ما رأينا رجلا أقضى بالقسط، ولا أقول للحق ولا أشد على المنافقين منك يا أمير المؤمنين، فأنت خير الناس بعد رسول الله. فقال عوف بن مالك: كذبتم والله، لقد رأينا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: من هو؟ فقال: أبو بكر. فقال عمر: صدق عوف وكذبتم، والله لقد كان أبو بكر أطيب من ريح المسك، وأنا أضل من بعير أهلي. يعنى قبل أن يسلم؛ لأن أبا بكر أسلم قبله بست سنين.
وهذا يدل على تواضع عمر وتقديره للفضلاء ولا يقتصر على الأحياء منهم، ولكنه يعم منهم الموتي كذلك، فلا يرضى أن ينكر فضلهم أو يغفل ذكرهم، ويظل يذكرهم بالخير في كل موقف، ويحمل الناس على احترام هذا المعنى النبيل، وعدم نسيان ما قدموه من جلائل الأعمال، فيبقى العمل النافع متواصل الحلقات يحمله رجال من رجال إلى رجال، فلا ينسى العمل الطيب بغياب صاحبه أو وفاته وفي هذا وفاء وفيه إيمان.
ونجد من شمائل الفاروق رضي الله عنه خوفه من الله عز وجل، ونرى ذلك الخوف واضحًا جليًا في أفعاله وأقواله، كان يبكي رضي الله عنه ويكثر البكاء، ويذهب إلى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول له: أستحلفك بالله، أأنا من المنافقين؟ ويقول ابن عباس رضي الله عنه: دخلت على عمر حين طعن، فقلت أبشر يا أمير المؤمنين، والله لقد مصر الله بك الأمصار، وأوسع بك الرزق، واظهر بك الحق، ودفع بك النفاق. فقال عمر: أفي الإمارة تثنى عليّ يا ابن عباس؟ ! قال: نعم يا أمير المؤمنين وفي غيرها.
قال: فوالذي نفسي بيده، لوددت أني أنجو منها كفافًا، لا أوجر ولا أوزر، والله لوددت أني خرجت منها كما دخلت فيها، لا أجر ولا وزر،
فوالله لو كان لي ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول المطلع.
وقال له ابن عباس مثنيًا عليه: أبشر بالجنة، صاحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلت صحبته، ووليت أمر المؤمنين فقويت، وأديت الامانة.
فقال عمر: أما تبشيرك إياي بالجنة، فو الله الذي لا إله إلا هو لو أن لي الدنيا وما فيها لافتديت به من هول ما أمامي قبل أن أعلم الخبر. وأما قولك في إمرة المؤمنين فوالله لوددت أن ذلك كفافًا لا لي ولا عليّ. وأما ما ذكرت من صحبة نبي الله صلى الله عليه وسلم فذلك.
وقد كان الفاروق رضي الله عنه واحدًا من المتواضعين فحاز كمال الإيمان ونال رضا رب العالمين.
فهذا موقف من مواقف تواضع الفاروق رضي الله عنه يرويه لنا طارق بن شهاب (رحمه الله) فيقول:
لما قدم عمر الشام عرضت له مخاضة، فنزل عن بعيره ونزع خفيه، ثم أخذ بخطام راحلته وخاض المخاضة، فقال أبو عبيدة بن الجراح:
لقد فعلت يا أمير المؤمنين فعلًا عظيمًا عند أهل الأرض، نزعت خفيك وقدمت راحلتك، وخضت المخاضة.
قال: فصك عمر بيده في صدر أبي عبيدة وقال:
أوه.. لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة!
أنتم كنتم أقل الناس، وأذل الناس، فأعزكم الله بالإسلام، فمهما تطلبوا العزة بغيره يذلكم الله تعالى.
ما أروعها من كلمات.
وما أعظمه من موقف.
فالفاروق لا يرى العز والشرف إلا في نعمة الإسلام، ومن اعتز بأي عرض من أعراض الدنيا من مال وجاه، أو غيرهما أذله الله.
والمتأمل في الموقف يشاهد تواضع الفاروق رضي الله عنه في عبوره المخاضة، وعدم اكتراثه لنظرات الناس إليه.
فالمتواضع لا يبحث عن السمعة والرياء، ولا يأنف من السير على أقدامه، أو خوض مخاضة، ولو كان أمير المؤمنين.
حتى عندما لقب بأمير المؤمنين تعجب الفاروق المتواضع من هذا اللقب، وخشي أن يعني التزكية، وطلب من قائله إبراء نفسه مما قال؛ يروي الزهري رحمه الله يقول: إن عمر بن عبد العزيز سأل أبا بكر بن سليمان بن أبي خيثمة: لأي شيء كان يكتب: من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. في عهد أبي بكر رضي الله عنه، ثم كان عمر يكتب أولا: من خليفة أبي بكر، فمن أول من كتب: من أمير المؤمنين؟
فقال: حدثتني الشفاء ـ وكانت من المهاجرات الأول ـ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى عامل العراق بأن يبعث إليه رجلين جلدين، يسألهما عن العراق وأهله، فبعث عامل العراق بلبيد بن ربيعة، وعدي بن حاتم، فلما قدما المدينة أناخا راحلتهما بفناء المسجد ثم دخلا المسجد، فإذا هما بعمرو بن العاص، فقالا: استأذن لنا يا عمرو على أمير المؤمنين.
فقال عمرو: أنتما أصبتما اسمه، هو الأمير، ونحن المؤمنون، ووثب عمرو فدخل على عمر أمير المؤمنين، فقال:
السلام عليك يا أمير المؤمنين.
فقال عمر: ما بدا لك في هذا الاسم يا ابن العاص؟ ! ربي يعلم، لتخرجن مما قلت؟ قال: إن لبيد بن ربيعة، وعدي بن حاتم قد أناخا راحلتهما بفناء المسجد، ثم دخلا عليّ فقالا لي: استأذن لنا يا عمرو على أمير المؤمنين. فهما والله قد أصابا اسمك، ونحن المؤمنون، وأنت أميرنا.
قال فمضى به الكتاب من يومئذ، وكانت الشفاء جدة أبي بكر بن سليمان.
ويدعو غيره إلى التواضع
وكان الفاروق رضي الله عنه مع تواضعه الجم يدعو غيره إلى التواضع، وهذا هو التواضع الإيجابي.
يقول سليم بن حنظلة البكري: كنا جلوسًا حول أُبَي بن كعب نسائله، فقام، فاتبعناه.
فرفع إلى عمر بن الخطاب، فعلاه بالدرة فقال أُبَي: مهلًا يا أمير المؤمنين، ما تصنع؟ فقال: إنها فتنة للمتبوع، ومذلة للتابع.
وهذه دعوة من الفاروق إلى التواضع، وتحذير من الوقوع في الكبر، فمن صفات المتواضعين: أنهم لا يحبون أن يمشي وراءهم أحد، ولذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكرهون أن يسير الناس وراءهم.
وما أروع الفاروق، وهو يعاتب نفسه على شيء يسير حدثته به، وفي ذلك أبلغ الدروس والعبر.
يروي محمد بن عمر المخزومي عن أبيه أن قال: نادى عمر بن الخطاب بالصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس وكبروا صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: أيها الناس. لقد رأيتني أرعى على خالات لي من بني مخزوم، فيقبضن لي قبضة من التمر، أو الزبيب، فأظل يومي، وأي يوم؟ !
ثم نزل عن المنبر، فقال عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين، ما زدت على أن قمّأت نفسك ـ يعني عبت ـ فقال: ويحك يا ابن عوف !!
إني خلوت فحدثتني نفسي، قالت: أنت أمير المؤمنين، فمن ذا أفضل منك؟ فأردت أن أعرفها نفسها.
ومن المواقف الرائعة والتي يتجلى من خلالها تواضع الفاروق الجم، ما رواه الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى فقال: كنت مع عمر بن الخطاب فلقيه رجل فقال: يا أمير المؤمنين انطلق معي فأعدني على فلان فإنه قد ظلمني. قال: فرفع الدرة فخفق بها رأسه فقال: تَدَعون أمير المؤمنين وهو معرض لكم حتى إذا شغل في أمر من أمور المسلمين أتيتموه: أعدني أعدني.
قال: فانصرف الرجل وهو يتذمر، قال: عَلَيَّ الرجل. فألقى إليه المخفقة وقال: امتثل. فقال: لا والله ولكن أدعها لله ولك. قال: ليس هكذا إما أن تدعها لله إرادة ما عنده أو تدعها لي فأعلم ذلك. قال: أدعها لله. قال: فانصرف. ثم جاء يمشي حتى دخل منزله ونحن معه فصلى ركعتين وجلس فقال: يا ابن الخطاب كنت وضيعا فرفعك الله وكنت ضالا فهداك الله وكنت ذليلا فأعزك الله ثم حملك على رقاب الناس فجاءك رجل يستعديك فضربته، ما تقول لربك غدا إذا أتيته، قال: فجعل يعاتب نفسه في ذلك معاتبة حتى ظننا أنه خير أهل الأرض.
والتواضع لا يزيد العبد إلا عزًا ورفعة، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ ".
من تواضعه نزوله عن رأيه في قتال المرتدين.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر: يا أبا بكر كيف تقاتل الناس، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. عَصَمَ مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ بِهِ عَلَى اللَّهِ ". قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا، كانوا يؤدونه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها.
قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله عز وجل شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.
وعندما اقترح بعض الصحابة على أبي بكر بأن يبقي جيش أسامة، حتى تهدأ الأمور. وقال عمر رضي الله عنه: إن معه وجوه المسلمين وجلتهم، ولا آمن على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن يتخطفهم المشركون، ولكن أبا بكر خالف ذلك، وأصر على أن تستمر الحملة العسكرية في تحركها نحو الشام مهما كانت الظروف والأحوال والنتائج.
لقد طلب الأنصار رجلًا أقدم سنًا من أسامة بن زيد رضي الله عنهما، فوثب أبو بكر رضي الله عنه وكان جالسًا، وأخذ بلحية عمر رضي الله عنه وقال: ثكلتك أمك ياابن الخطاب، استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأمرني أن أعزله. فخرج عمر إلى الناس فقال: امضوا ثكلتكم أمهاتكم، ما لقيت في سببكم من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن الحسن البصري قال: خرج عمر رضي الله عنه في يوم حار واضعًا رداءه على رأسه، فمر به غلام على حمار، فقال: يا غلام، احملني معك، فوثب الغلام عن الحمار، وقال: اركب يا أمير المؤمنين، قال: لا، اركب، وأركب أنا خلفك تريد أن تحملني على المكان الواطئ، وتركب أنت على الموضع الخشن. فركب خلف الغلام، فدخل المدينة وهو خلفه، والناس ينظرون إليه.
ويقبل النصح من الجميع
خرج عمر بن الخطاب من المسجد والجارود العبدي معه، فبينما هما خارجان إذ بامرأة على ظهر الطريق، فسلم عليها عمر فردت عليه السلام، ثم قالت: رويدك يا عمر حتى أكلمك كلمات قليلة. قال لها: قولي. قالت: يا عمر عهدي بك وأنت تسمي عميرًا في سوق عكاظ تصارع الفتيان، فلم تذهب الأيام حتى تسمى عمرًا، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الموت خشي الفوت، فقال الجارود: هيه، قد اجترأت على أمير المؤمنين، فقال عمر: دعها، أما تعرف هذه يا جارود؟ هذه خولة بنت حكيم التي سمع الله قولها من فوق سبع سموات، فعمر أحرى أن يسمع كلامها.
أراد بذلك قوله تعالى: [قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] {المجادلة: 1}.
يسمع كلام حذيفة.
قال حذيفة: دخلت على عمر رضي الله عنه فرأيته مهمومًا حزينًا، فقلت له: ما يهمك يا أمير المؤمنين؟
فقال: إني أخاف أن أقع في منكر فلا ينهاني أحد منكم تعظيمًا لي.
فقال حذيفة: والله لو رأيناك خرجت عن الحق لنهيناك.
ففرح عمر وقال: الحمد لله الذي جعل لي أصحابًا يقومونني إذا اعوججت.
عمر يعترف بصواب رأي امرأة.
قال عبد الله بن مصعب خطب عمر رضوان الله عليه فقال: لا تزيدوا مهور النساء على أربعين أوقية، وإن كانت بنت ذي فضة، يعني يزيد ين الحصين الحارثي، فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال.
فقامت امرأة من صف النساء طويلة في أنفها فطس فقالت: ما ذاك لك؟ قال: ولم؟ قالت: لأن الله يقول: [وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا] {النساء: 20}.
فقال عمر رضي الله عنه: امرأة أصابت، ورجل أخطأ.
وهذا مما يدل على جم تواضعه رضي الله عنه.
ما أعظم التواضع لو كان من عظيم حقيقي العظمة.
التواضع من مكارم الأخلاق التي اتصف بها الفاروق رضي الله عنه وأورثته محبة الآخرين.
فالعبد المتواضع يجعل الناس يحبون معاملته، ويودون مجالسته، ويتمنون لقاءه، ويستأنسون بكلامه، ويتفانون في خدمته.
فالتواضع يعني قبول الحق ممن كان، وخفض الجناح ولين الجانب، وعدم شعور النفس بأن لها فضلًا على الآخرين.
وما أجمل قول الشاعر:
تَوَاضَعْ تَكُنْ كَالنَّجْمِ لَاحَ لِنَاظِرٍ عَلَى صَفَحَاتِ الْمَاءِ وَهْوَ رَفِيعُ
وَلَا تَكُ كَالدُّخَانِ يَعْلُو بِنَفْسِهِ إِلَى طَبَقَاتِ الْجَوِّ وَهْوَ وَضِيعُ
وهذا الشافعي رحمه الله يقول: " التواضع من أخلاق الكرام، والتكبر من شيم اللئام " ويقول: " أرفع الناس قدرا من لا يَرَى قدره، وأكثر الناس فضلا من لا يَرَى فضله ". (تاريخ دمشق جزء 51- صفحة 413)
عمر يعطي الناس قدرهم
ولنصغ بقلوبنا إلى هذه الرواية، فقد أورد المتقي الهندي في (كنز العمال جزء 1- صفحة 5)
عن شرحبيل بن مسلم الخولاني أن الأسود بن قيس بن ذي الخمار تنبأ باليمن فبعث إلى أبي مسلم الخولاني فأتاه فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: ما أسمع. قال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. فأمر بنار عظيمة ثم ألقى أبا مسلم فيها، فلم تضره. فقيل للأسود بن قيس: إن لم تنف هذا عنك أفسد عليك من اتبعك. فأمره بالرحيل، فقدم المدينة، وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر، فأناخ راحلته بباب المسجد ودخل يصلي إلى سارية فبصر به عمر بن الخطاب، فقام إليه فقال: ممن الرجل؟ فقال: من أهل اليمن. فقال: ما فعل الذي حرقه الكذاب؟ (زاد في المنتخب: بالنار) قال: ذاك عبد الله بن ثوب. قال: فنشدتك بالله، أنت هو؟ قال: اللهم نعم. فاعتنقه عمر، وبكى ثم ذهب به وأجلسه فيما بينه وبين أبي بكر الصديق، فقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من صُنع به كما صُنع بإبراهيم خليل الرحمن فلم تضره النار.
ومن تواضع عمر ورقته ومن عجيب أمره، أنه مع هيبة الناس له، كان إذا غضب فقرأ أحد عليه آيات الرحمن، أو ذكّره بالله ذهب عنه غضبه؛ يقول ابن عباس رضي الله عنهما: قدم عيينة بن حصن على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يُدْنِيهم عمر رضي الله عنه، وكان القراء أصحاب مجلس عمر رضي الله عنه ومشاوريه ـ كهولًا كانوا أو شبابًا ـ فقال عيينة لابن أخيه الحر بن قيس: هل لك وجه عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه؟ قال: سأستأذن لك عليه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: فاستأذن الحر لعيينة، فلما دخل عليه قال: يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بالعدل، قال فغضب عمر رضي الله عنه حتى هم أن يقع عليه، فقال الحر: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه: [خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ] {الأعراف: 199}. قال: فوالله ما جاوزها عمر رضي الله عنه حين تلاها، وكان وقافًا عند كتاب الله.
يعرف نفسه جيدًا
يروي أنس بن مالك رضي الله عنه فيقول:
سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا، وخرجت معه، حتى دخل حائطًا، فسمعته يقول، وبيني وبينه حائط، وهو في جوف الحائط:
عمر بن الخطاب.. أمير المؤمنين.. بخ بخ، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب، أو ليعذبنك ".
وقدم على عمر بن الخطاب وفد من العراق فيهم الأحنف بن قيس في يوم صائف شديد الحر، وعمر معتجر (معمم بعباءة), يهنأ بعيرًا من إبل الصدقة (أى يطليه بالقطران) فقال: يا أحنف ضع ثيابك، وهلم، فأعن أمير المؤمنين على هذا البعير فإنه إبل الصدقة، فيه حق اليتيم، والأرملة، والمسكين، فقال رجل من القوم: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين، فهلًا تأمر عبدا من عبيد الصدقة فيكفيك؟ فقال عمر: وأي عبد هو أعبد منى، ومن الأحنف؟ إنه من ولى أمر المسلمين يجب عليه لهم ما يجب على العبد لسيده في النصيحة، وأداء الأمانة.
وعن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء فقلت: يا أمير المؤمنين، لا ينبغى لك هذا، فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين، دخلت نفسي نخوة؛ فأردت أن أكسرها.
وعن جبير بن نفير: أن نفرا قالوا لعمر بن الخطاب: ما رأينا رجلا أقضى بالقسط، ولا أقول للحق ولا أشد على المنافقين منك يا أمير المؤمنين، فأنت خير الناس بعد رسول الله. فقال عوف بن مالك: كذبتم والله، لقد رأينا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: من هو؟ فقال: أبو بكر. فقال عمر: صدق عوف وكذبتم، والله لقد كان أبو بكر أطيب من ريح المسك، وأنا أضل من بعير أهلي. يعنى قبل أن يسلم؛ لأن أبا بكر أسلم قبله بست سنين.
وهذا يدل على تواضع عمر وتقديره للفضلاء ولا يقتصر على الأحياء منهم، ولكنه يعم منهم الموتي كذلك، فلا يرضى أن ينكر فضلهم أو يغفل ذكرهم، ويظل يذكرهم بالخير في كل موقف، ويحمل الناس على احترام هذا المعنى النبيل، وعدم نسيان ما قدموه من جلائل الأعمال، فيبقى العمل النافع متواصل الحلقات يحمله رجال من رجال إلى رجال، فلا ينسى العمل الطيب بغياب صاحبه أو وفاته وفي هذا وفاء وفيه إيمان.
ونجد من شمائل الفاروق رضي الله عنه خوفه من الله عز وجل، ونرى ذلك الخوف واضحًا جليًا في أفعاله وأقواله، كان يبكي رضي الله عنه ويكثر البكاء، ويذهب إلى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول له: أستحلفك بالله، أأنا من المنافقين؟ ويقول ابن عباس رضي الله عنه: دخلت على عمر حين طعن، فقلت أبشر يا أمير المؤمنين، والله لقد مصر الله بك الأمصار، وأوسع بك الرزق، واظهر بك الحق، ودفع بك النفاق. فقال عمر: أفي الإمارة تثنى عليّ يا ابن عباس؟ ! قال: نعم يا أمير المؤمنين وفي غيرها.
قال: فوالذي نفسي بيده، لوددت أني أنجو منها كفافًا، لا أوجر ولا أوزر، والله لوددت أني خرجت منها كما دخلت فيها، لا أجر ولا وزر،
فوالله لو كان لي ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول المطلع.
وقال له ابن عباس مثنيًا عليه: أبشر بالجنة، صاحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلت صحبته، ووليت أمر المؤمنين فقويت، وأديت الامانة.
فقال عمر: أما تبشيرك إياي بالجنة، فو الله الذي لا إله إلا هو لو أن لي الدنيا وما فيها لافتديت به من هول ما أمامي قبل أن أعلم الخبر. وأما قولك في إمرة المؤمنين فوالله لوددت أن ذلك كفافًا لا لي ولا عليّ. وأما ما ذكرت من صحبة نبي الله صلى الله عليه وسلم فذلك.
وقد كان الفاروق رضي الله عنه واحدًا من المتواضعين فحاز كمال الإيمان ونال رضا رب العالمين.
فهذا موقف من مواقف تواضع الفاروق رضي الله عنه يرويه لنا طارق بن شهاب (رحمه الله) فيقول:
لما قدم عمر الشام عرضت له مخاضة، فنزل عن بعيره ونزع خفيه، ثم أخذ بخطام راحلته وخاض المخاضة، فقال أبو عبيدة بن الجراح:
لقد فعلت يا أمير المؤمنين فعلًا عظيمًا عند أهل الأرض، نزعت خفيك وقدمت راحلتك، وخضت المخاضة.
قال: فصك عمر بيده في صدر أبي عبيدة وقال:
أوه.. لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة!
أنتم كنتم أقل الناس، وأذل الناس، فأعزكم الله بالإسلام، فمهما تطلبوا العزة بغيره يذلكم الله تعالى.
ما أروعها من كلمات.
وما أعظمه من موقف.
فالفاروق لا يرى العز والشرف إلا في نعمة الإسلام، ومن اعتز بأي عرض من أعراض الدنيا من مال وجاه، أو غيرهما أذله الله.
والمتأمل في الموقف يشاهد تواضع الفاروق رضي الله عنه في عبوره المخاضة، وعدم اكتراثه لنظرات الناس إليه.
فالمتواضع لا يبحث عن السمعة والرياء، ولا يأنف من السير على أقدامه، أو خوض مخاضة، ولو كان أمير المؤمنين.
حتى عندما لقب بأمير المؤمنين تعجب الفاروق المتواضع من هذا اللقب، وخشي أن يعني التزكية، وطلب من قائله إبراء نفسه مما قال؛ يروي الزهري رحمه الله يقول: إن عمر بن عبد العزيز سأل أبا بكر بن سليمان بن أبي خيثمة: لأي شيء كان يكتب: من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. في عهد أبي بكر رضي الله عنه، ثم كان عمر يكتب أولا: من خليفة أبي بكر، فمن أول من كتب: من أمير المؤمنين؟
فقال: حدثتني الشفاء ـ وكانت من المهاجرات الأول ـ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى عامل العراق بأن يبعث إليه رجلين جلدين، يسألهما عن العراق وأهله، فبعث عامل العراق بلبيد بن ربيعة، وعدي بن حاتم، فلما قدما المدينة أناخا راحلتهما بفناء المسجد ثم دخلا المسجد، فإذا هما بعمرو بن العاص، فقالا: استأذن لنا يا عمرو على أمير المؤمنين.
فقال عمرو: أنتما أصبتما اسمه، هو الأمير، ونحن المؤمنون، ووثب عمرو فدخل على عمر أمير المؤمنين، فقال:
السلام عليك يا أمير المؤمنين.
فقال عمر: ما بدا لك في هذا الاسم يا ابن العاص؟ ! ربي يعلم، لتخرجن مما قلت؟ قال: إن لبيد بن ربيعة، وعدي بن حاتم قد أناخا راحلتهما بفناء المسجد، ثم دخلا عليّ فقالا لي: استأذن لنا يا عمرو على أمير المؤمنين. فهما والله قد أصابا اسمك، ونحن المؤمنون، وأنت أميرنا.
قال فمضى به الكتاب من يومئذ، وكانت الشفاء جدة أبي بكر بن سليمان.
ويدعو غيره إلى التواضع
وكان الفاروق رضي الله عنه مع تواضعه الجم يدعو غيره إلى التواضع، وهذا هو التواضع الإيجابي.
يقول سليم بن حنظلة البكري: كنا جلوسًا حول أُبَي بن كعب نسائله، فقام، فاتبعناه.
فرفع إلى عمر بن الخطاب، فعلاه بالدرة فقال أُبَي: مهلًا يا أمير المؤمنين، ما تصنع؟ فقال: إنها فتنة للمتبوع، ومذلة للتابع.
وهذه دعوة من الفاروق إلى التواضع، وتحذير من الوقوع في الكبر، فمن صفات المتواضعين: أنهم لا يحبون أن يمشي وراءهم أحد، ولذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكرهون أن يسير الناس وراءهم.
وما أروع الفاروق، وهو يعاتب نفسه على شيء يسير حدثته به، وفي ذلك أبلغ الدروس والعبر.
يروي محمد بن عمر المخزومي عن أبيه أن قال: نادى عمر بن الخطاب بالصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس وكبروا صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: أيها الناس. لقد رأيتني أرعى على خالات لي من بني مخزوم، فيقبضن لي قبضة من التمر، أو الزبيب، فأظل يومي، وأي يوم؟ !
ثم نزل عن المنبر، فقال عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين، ما زدت على أن قمّأت نفسك ـ يعني عبت ـ فقال: ويحك يا ابن عوف !!
إني خلوت فحدثتني نفسي، قالت: أنت أمير المؤمنين، فمن ذا أفضل منك؟ فأردت أن أعرفها نفسها.
ومن المواقف الرائعة والتي يتجلى من خلالها تواضع الفاروق الجم، ما رواه الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى فقال: كنت مع عمر بن الخطاب فلقيه رجل فقال: يا أمير المؤمنين انطلق معي فأعدني على فلان فإنه قد ظلمني. قال: فرفع الدرة فخفق بها رأسه فقال: تَدَعون أمير المؤمنين وهو معرض لكم حتى إذا شغل في أمر من أمور المسلمين أتيتموه: أعدني أعدني.
قال: فانصرف الرجل وهو يتذمر، قال: عَلَيَّ الرجل. فألقى إليه المخفقة وقال: امتثل. فقال: لا والله ولكن أدعها لله ولك. قال: ليس هكذا إما أن تدعها لله إرادة ما عنده أو تدعها لي فأعلم ذلك. قال: أدعها لله. قال: فانصرف. ثم جاء يمشي حتى دخل منزله ونحن معه فصلى ركعتين وجلس فقال: يا ابن الخطاب كنت وضيعا فرفعك الله وكنت ضالا فهداك الله وكنت ذليلا فأعزك الله ثم حملك على رقاب الناس فجاءك رجل يستعديك فضربته، ما تقول لربك غدا إذا أتيته، قال: فجعل يعاتب نفسه في ذلك معاتبة حتى ظننا أنه خير أهل الأرض.
والتواضع لا يزيد العبد إلا عزًا ورفعة، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ ".
من تواضعه نزوله عن رأيه في قتال المرتدين.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر: يا أبا بكر كيف تقاتل الناس، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. عَصَمَ مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ بِهِ عَلَى اللَّهِ ". قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا، كانوا يؤدونه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها.
قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله عز وجل شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.
وعندما اقترح بعض الصحابة على أبي بكر بأن يبقي جيش أسامة، حتى تهدأ الأمور. وقال عمر رضي الله عنه: إن معه وجوه المسلمين وجلتهم، ولا آمن على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن يتخطفهم المشركون، ولكن أبا بكر خالف ذلك، وأصر على أن تستمر الحملة العسكرية في تحركها نحو الشام مهما كانت الظروف والأحوال والنتائج.
لقد طلب الأنصار رجلًا أقدم سنًا من أسامة بن زيد رضي الله عنهما، فوثب أبو بكر رضي الله عنه وكان جالسًا، وأخذ بلحية عمر رضي الله عنه وقال: ثكلتك أمك ياابن الخطاب، استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأمرني أن أعزله. فخرج عمر إلى الناس فقال: امضوا ثكلتكم أمهاتكم، ما لقيت في سببكم من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن الحسن البصري قال: خرج عمر رضي الله عنه في يوم حار واضعًا رداءه على رأسه، فمر به غلام على حمار، فقال: يا غلام، احملني معك، فوثب الغلام عن الحمار، وقال: اركب يا أمير المؤمنين، قال: لا، اركب، وأركب أنا خلفك تريد أن تحملني على المكان الواطئ، وتركب أنت على الموضع الخشن. فركب خلف الغلام، فدخل المدينة وهو خلفه، والناس ينظرون إليه.
ويقبل النصح من الجميع
خرج عمر بن الخطاب من المسجد والجارود العبدي معه، فبينما هما خارجان إذ بامرأة على ظهر الطريق، فسلم عليها عمر فردت عليه السلام، ثم قالت: رويدك يا عمر حتى أكلمك كلمات قليلة. قال لها: قولي. قالت: يا عمر عهدي بك وأنت تسمي عميرًا في سوق عكاظ تصارع الفتيان، فلم تذهب الأيام حتى تسمى عمرًا، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الموت خشي الفوت، فقال الجارود: هيه، قد اجترأت على أمير المؤمنين، فقال عمر: دعها، أما تعرف هذه يا جارود؟ هذه خولة بنت حكيم التي سمع الله قولها من فوق سبع سموات، فعمر أحرى أن يسمع كلامها.
أراد بذلك قوله تعالى: [قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] {المجادلة: 1}.
يسمع كلام حذيفة.
قال حذيفة: دخلت على عمر رضي الله عنه فرأيته مهمومًا حزينًا، فقلت له: ما يهمك يا أمير المؤمنين؟
فقال: إني أخاف أن أقع في منكر فلا ينهاني أحد منكم تعظيمًا لي.
فقال حذيفة: والله لو رأيناك خرجت عن الحق لنهيناك.
ففرح عمر وقال: الحمد لله الذي جعل لي أصحابًا يقومونني إذا اعوججت.
عمر يعترف بصواب رأي امرأة.
قال عبد الله بن مصعب خطب عمر رضوان الله عليه فقال: لا تزيدوا مهور النساء على أربعين أوقية، وإن كانت بنت ذي فضة، يعني يزيد ين الحصين الحارثي، فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال.
فقامت امرأة من صف النساء طويلة في أنفها فطس فقالت: ما ذاك لك؟ قال: ولم؟ قالت: لأن الله يقول: [وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا] {النساء: 20}.
فقال عمر رضي الله عنه: امرأة أصابت، ورجل أخطأ.
وهذا مما يدل على جم تواضعه رضي الله عنه.