غزوة بلنجرد
بلنجرد: مدينة الخزَر خلف باب الأبواب.
في عهد "الفاروق عمر بن الخطاب" زحف عبد الرحمن بن ربيعة بجيشه (يريد بلنجرد) فخافهم الترك في أول الأمر وقالوا: إن هؤلاء أي العرب ملائكة لا يعمل فيهم السلاح. فاتفق أن تركيًا اختفى في غيضة [غيضة: أجمة. [القاموس المحيط، مادة: غيض].] ورشق مسلمًا بسهم فقتله. فنادى في قومه أن هؤلاء يموتون، كما تموتون، فلا تخافوهم. فاجترأوا عليهم، وأوقعوا بهم حتى استشهد عبد الرحمن بن ربيعة، وأخذ الراية أخوه، ولم يزل يقاتل حتى أمكنه دفن أخيه بنواحي بلنجرد، ورجع بقية المسلمين على طريق جيلان.
وفي سنة 32 هـ انتصرت الخزر والترك على المسلمين، وسببه أن الغزوات لما تتابعت عليهم تذامروا [تذامروا: تحاضّوا على القتال وتلاوموا. [القاموس المحيط، مادة: تذَّمر].
وقالوا: كنا لا يُقرن بنا أحد حتى جاءت هذه الأمة "العربية" فصرنا لا نقوم لها.
لما قتل عبد الرحمن بن ربيعة وانهزم المسلمون افترقوا فرقتين فرقة نحو الباب، فلقوا سلمان بن ربيعة أخا عبد الرحمن، كان قد سيره سعيد بن العاص مددًا للمسلمين بأمر عثمان، فلما لقوه نجوا معه. وفرقة نحو جيلان وجرجان، فيهم سلمان الفارسي وأبو هريرة، وكان في ذلك العسكر يزيد بن معاوية النخعي ، وعلقمة بن قيس ، ومعضد الشيباني، وأبو مفرز التميمي في خباء واحد، وخالد بن ربيعة، والحلحان ابن دري، والقرثع في خباء، فكانوا متجاورين في ذلك العسكر. وكان القرثع يقول: ما أحسن لمع الدماء على الثياب. وكان عمرو بن عتبة يقول لقباء عليه أبيض: ما أحسن حمرة الدماء على بياضك، ورأى يزيد بن معاوية في منامه أن غزالًا جيء به لم ير أحسن منه فلف في ملحفة، ثم دفن في قبر لم ير أحسن منه، عليه أربعة نفر قعودًا، فلما استيقظ واقتتل الناس رمي بحجر فهشم رأسه فمات فكأنما زين ثوبه بالدماء وليس بتلطيخ، فدفن في قبر على الصورة التي رأى.
وقال معضد لعلقمة: أعرني بردك أعصب به رأسي، ففعل، فأتى برج بلنجرد الذي أصيب فيه يزيد فرماهم فقتل منهم. وأتاه حجر عرّادة [عرّادة: آلة تستخدم في الحرب لدك الحصون، أصغر من المنجنيق، وترمي بالحجارة البعيدة المرمى، جمعها عرّادات. [القاموس المحيط، مادة: عرد]. ففضخ هامته فأخذه أصحابه، فدفنوه إلى جنب يزيد، وأخذ علقمة البرد فكان يغسله، فلا يخرج أثر الدم منه. وكان يشهد فيه الجمعة، ويقول: يحملني على هذا أن دم معضد فيه. وأصاب عمرو بن عتبة جراحة فرأى قباءه كما اشتهى ثم قتل، وأما القرثع فإنه قاتل حتى خرق بالحراب. فبلغ الخبر بذلك إلى عثمان فقال: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، انتكث أهل الكوفة. اللَّهم تب عليهم وأقبل بهم. وكان عثمان قد كتب إلى سعيد بن العاص أن ينفذ سلمان إلى الباب للغزو فسيره، فلقي المهزومين على ما تقدم، فنجاهم اللَّه به. فلما أصيب عبد الرحمن استعمل سلمان بن ربيعة على الباب واستعمل على الغزو بأهل الكوفة حذيفة بن اليمان وأمدَّهم عثمان بأهل الشام. عليهم حبيب بن مسلمة فتأمر عليه سلمان وأبى حبيب حتى قال أهل الشام: لقد هممنا بضرب سلمان. فقال الكوفيون: إذن، واللَّه نضرب حبيبًا ونحبسه، وإن أبيتم كثرت القتلى فينا وفيكم[وقال أوس بن مغراء في ذلك:
إن تضربوا سلمان نضرب حبيبكم *** وإن ترحلوا نحو ابن عفان نرحل
وإن تقسطوا فالثغر ثغر أميرنا *** وهذا أمير في الكتائب مقبل
ونحن ولاة الثغر كنا حماته *** ليالي نرمي كل ثغر وننكل
وأراد حبيب أن يتأمر على صاحب الباب كما يتأمر أمير الجيش إذا جاء من الكوفة، فكان ذلك أول خلاف وقع بين أهل الكوفة، وغزا حذيفة ثلاث غزوات، فقتل عثمان في الثالثة، ولقيهم مقتل عثمان. فقال حذيفة بن اليمان: "اللَّهم العن قتلته وشتَّامه، اللَّهم إنا كنا نعاتبه ويعاتبنا فاتخذوا ذلك سلمًا إلى الفتنة، اللَّهم لا تمتهم إلا بالسيوف".
خروج الترك مع ملكهم قارن
خرجت جموع من الترك من ناحية خراسان في 40.000 عليهم قارن من ملوكهم، فانتهى إلى الطبسين واجتمع له أهل باذغيس وهراة وقهستان، وكان على خراسان يومئذ ابن الهيثم السلمي استخلفه عليها ابن عامر عند خروجه إلى مكة محرمًا، فدوَّخ جهتها، وكان معه ابن عمه عبد اللَّه بن خازم فقال لابن عامر: اكتب لي على خراسان عهدًا إذا خرج منها قيس ففعل. فلما أقبلت جموع الترك قال قيس لابن خازم: ما ترى؟ قال: أرى أن تخرج من البلاد، فإن عهد ابن عامر عندي بولايتها، فترك منازعته وذهب إلى ابن عامر. وقيل: أشار عليه أن يخرج إلى ابن عامر يستمده، فلما خرج أشهر عهد ابن عامر له بالولاية عند مغيب قيس، وسار ابن خازم للقاء الترك في أربعة آلاف، وأمر الناس فحملوا الودك [الودك: الدسم من اللحم، والشحم، وهو ما يتحلّب منهما. [القاموس المحيط، مادة: ودك].
فلما قرب من قارن أمر الناس أن يربط كل رجل منهم على زج رمحه خرقة، أو قطنًا، ثم يكثروا دهنه، ثم سار حتى أمسى فقدم مقدمته ستمائة، ثم أتبعهم، وأمر الناس فأشعلوا النار في أطراف الرماح، فانتهت مقدمته إلى معسكر قارن نصف الليل، فناوشوهم وهاج الناس على دهش، وكانوا آمنين من البيات، ودنا ابن خازم منهم فرأوا النيران يمنة وميسرة تتقدم وتتأخر، وتنخفض وترتفع، فهالهم ذلك، ومقدمة ابن خازم يقاتلونهم، ثم غشيهم ابن خازم وأكثروا القتل في المشركين، وقتل ملكهم قارن فانهزم المشركون واتبعهم المسلمون يقتلونهم كيف شاءوا وأصابوا سبيًا كثيرًا وكتب ابن خازم بالفتح إلى ابن عامر فرضي وأقره على خراسان.
هذه الخدعة الحربية التي ابتدعها ابن خازم بإشعال أطراف الرماح ومداهمة العدو ليلًا هي أول خدعة سمعنا بها في التاريخ الإسلامي، وقد فزع العدو لرؤيتها وهالهم الأمر، وبذلك انتصر المسلمون على الأتراك في هذه الموقعة.
المراجع
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 627، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 25] (سنة 32 هـ/ 653 م):[ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 25] (سنة 32 هـ/ 653 م):
بلنجرد: مدينة الخزَر خلف باب الأبواب.
في عهد "الفاروق عمر بن الخطاب" زحف عبد الرحمن بن ربيعة بجيشه (يريد بلنجرد) فخافهم الترك في أول الأمر وقالوا: إن هؤلاء أي العرب ملائكة لا يعمل فيهم السلاح. فاتفق أن تركيًا اختفى في غيضة [غيضة: أجمة. [القاموس المحيط، مادة: غيض].] ورشق مسلمًا بسهم فقتله. فنادى في قومه أن هؤلاء يموتون، كما تموتون، فلا تخافوهم. فاجترأوا عليهم، وأوقعوا بهم حتى استشهد عبد الرحمن بن ربيعة، وأخذ الراية أخوه، ولم يزل يقاتل حتى أمكنه دفن أخيه بنواحي بلنجرد، ورجع بقية المسلمين على طريق جيلان.
وفي سنة 32 هـ انتصرت الخزر والترك على المسلمين، وسببه أن الغزوات لما تتابعت عليهم تذامروا [تذامروا: تحاضّوا على القتال وتلاوموا. [القاموس المحيط، مادة: تذَّمر].
وقالوا: كنا لا يُقرن بنا أحد حتى جاءت هذه الأمة "العربية" فصرنا لا نقوم لها.
لما قتل عبد الرحمن بن ربيعة وانهزم المسلمون افترقوا فرقتين فرقة نحو الباب، فلقوا سلمان بن ربيعة أخا عبد الرحمن، كان قد سيره سعيد بن العاص مددًا للمسلمين بأمر عثمان، فلما لقوه نجوا معه. وفرقة نحو جيلان وجرجان، فيهم سلمان الفارسي وأبو هريرة، وكان في ذلك العسكر يزيد بن معاوية النخعي ، وعلقمة بن قيس ، ومعضد الشيباني، وأبو مفرز التميمي في خباء واحد، وخالد بن ربيعة، والحلحان ابن دري، والقرثع في خباء، فكانوا متجاورين في ذلك العسكر. وكان القرثع يقول: ما أحسن لمع الدماء على الثياب. وكان عمرو بن عتبة يقول لقباء عليه أبيض: ما أحسن حمرة الدماء على بياضك، ورأى يزيد بن معاوية في منامه أن غزالًا جيء به لم ير أحسن منه فلف في ملحفة، ثم دفن في قبر لم ير أحسن منه، عليه أربعة نفر قعودًا، فلما استيقظ واقتتل الناس رمي بحجر فهشم رأسه فمات فكأنما زين ثوبه بالدماء وليس بتلطيخ، فدفن في قبر على الصورة التي رأى.
وقال معضد لعلقمة: أعرني بردك أعصب به رأسي، ففعل، فأتى برج بلنجرد الذي أصيب فيه يزيد فرماهم فقتل منهم. وأتاه حجر عرّادة [عرّادة: آلة تستخدم في الحرب لدك الحصون، أصغر من المنجنيق، وترمي بالحجارة البعيدة المرمى، جمعها عرّادات. [القاموس المحيط، مادة: عرد]. ففضخ هامته فأخذه أصحابه، فدفنوه إلى جنب يزيد، وأخذ علقمة البرد فكان يغسله، فلا يخرج أثر الدم منه. وكان يشهد فيه الجمعة، ويقول: يحملني على هذا أن دم معضد فيه. وأصاب عمرو بن عتبة جراحة فرأى قباءه كما اشتهى ثم قتل، وأما القرثع فإنه قاتل حتى خرق بالحراب. فبلغ الخبر بذلك إلى عثمان فقال: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، انتكث أهل الكوفة. اللَّهم تب عليهم وأقبل بهم. وكان عثمان قد كتب إلى سعيد بن العاص أن ينفذ سلمان إلى الباب للغزو فسيره، فلقي المهزومين على ما تقدم، فنجاهم اللَّه به. فلما أصيب عبد الرحمن استعمل سلمان بن ربيعة على الباب واستعمل على الغزو بأهل الكوفة حذيفة بن اليمان وأمدَّهم عثمان بأهل الشام. عليهم حبيب بن مسلمة فتأمر عليه سلمان وأبى حبيب حتى قال أهل الشام: لقد هممنا بضرب سلمان. فقال الكوفيون: إذن، واللَّه نضرب حبيبًا ونحبسه، وإن أبيتم كثرت القتلى فينا وفيكم[وقال أوس بن مغراء في ذلك:
إن تضربوا سلمان نضرب حبيبكم *** وإن ترحلوا نحو ابن عفان نرحل
وإن تقسطوا فالثغر ثغر أميرنا *** وهذا أمير في الكتائب مقبل
ونحن ولاة الثغر كنا حماته *** ليالي نرمي كل ثغر وننكل
وأراد حبيب أن يتأمر على صاحب الباب كما يتأمر أمير الجيش إذا جاء من الكوفة، فكان ذلك أول خلاف وقع بين أهل الكوفة، وغزا حذيفة ثلاث غزوات، فقتل عثمان في الثالثة، ولقيهم مقتل عثمان. فقال حذيفة بن اليمان: "اللَّهم العن قتلته وشتَّامه، اللَّهم إنا كنا نعاتبه ويعاتبنا فاتخذوا ذلك سلمًا إلى الفتنة، اللَّهم لا تمتهم إلا بالسيوف".
خروج الترك مع ملكهم قارن
خرجت جموع من الترك من ناحية خراسان في 40.000 عليهم قارن من ملوكهم، فانتهى إلى الطبسين واجتمع له أهل باذغيس وهراة وقهستان، وكان على خراسان يومئذ ابن الهيثم السلمي استخلفه عليها ابن عامر عند خروجه إلى مكة محرمًا، فدوَّخ جهتها، وكان معه ابن عمه عبد اللَّه بن خازم فقال لابن عامر: اكتب لي على خراسان عهدًا إذا خرج منها قيس ففعل. فلما أقبلت جموع الترك قال قيس لابن خازم: ما ترى؟ قال: أرى أن تخرج من البلاد، فإن عهد ابن عامر عندي بولايتها، فترك منازعته وذهب إلى ابن عامر. وقيل: أشار عليه أن يخرج إلى ابن عامر يستمده، فلما خرج أشهر عهد ابن عامر له بالولاية عند مغيب قيس، وسار ابن خازم للقاء الترك في أربعة آلاف، وأمر الناس فحملوا الودك [الودك: الدسم من اللحم، والشحم، وهو ما يتحلّب منهما. [القاموس المحيط، مادة: ودك].
فلما قرب من قارن أمر الناس أن يربط كل رجل منهم على زج رمحه خرقة، أو قطنًا، ثم يكثروا دهنه، ثم سار حتى أمسى فقدم مقدمته ستمائة، ثم أتبعهم، وأمر الناس فأشعلوا النار في أطراف الرماح، فانتهت مقدمته إلى معسكر قارن نصف الليل، فناوشوهم وهاج الناس على دهش، وكانوا آمنين من البيات، ودنا ابن خازم منهم فرأوا النيران يمنة وميسرة تتقدم وتتأخر، وتنخفض وترتفع، فهالهم ذلك، ومقدمة ابن خازم يقاتلونهم، ثم غشيهم ابن خازم وأكثروا القتل في المشركين، وقتل ملكهم قارن فانهزم المشركون واتبعهم المسلمون يقتلونهم كيف شاءوا وأصابوا سبيًا كثيرًا وكتب ابن خازم بالفتح إلى ابن عامر فرضي وأقره على خراسان.
هذه الخدعة الحربية التي ابتدعها ابن خازم بإشعال أطراف الرماح ومداهمة العدو ليلًا هي أول خدعة سمعنا بها في التاريخ الإسلامي، وقد فزع العدو لرؤيتها وهالهم الأمر، وبذلك انتصر المسلمون على الأتراك في هذه الموقعة.
المراجع
[الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 627، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 25] (سنة 32 هـ/ 653 م):[ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 25] (سنة 32 هـ/ 653 م):